التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا} (26)

وجملة { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً } في موضع العلة لجملة { إن أدري أقريب ما توعدون } الآية .

و { عالم الغيب } : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم الغيب والضمير المحذوف عائد إلى قوله { ربي } . وهذا الحذف من قبيل حذف المسند إليه حذفاً اتُّبع فيه الاستعمال إذا كان الكلام قد اشتمل على ذكر المسند إليه وصفاته كما نبه عليه السكاكي في « المفتاح » .

و { الغيب } : مصدر غاب إذا استتر وخفي عن الأنظار وتعريفه تعريف الجنس .

وإضافة صفة { عالم } إلى { الغيب } تفيد العلم بكل الحقائق المغيبة سواء كانت ماهيات أو أفراداً فيشمل المعنى المصدري للغيب مثل علم الله بذاته وصفاته ، ويشمل الأمور الغائبة بذاتها مثل الملائكة والجن . ويشمل الذوات المغيبة عن علم الناس مثل الوقائع المستقبلة التي يخبر عنها أو التي لا يخبر عنها ، فإيثار المصدر هنا لأنه أشمل لإِحاطة علم الله بجميع ذلك .

وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } في سورة البقرة ( 3 ) .

وتعريف المسند مع تعريف المسند إليه المقدر يفيد القصر ، أي هو عالم الغيب لا أنا .

وفرع على معنى تخصيص الله تعالى بعلم الغيب جملة { فلا يُظْهر على غيبه أحداً } ، فالفاء لتفريع حكم على حكم والحكم المفرع إتمام للتعليل وتفصيل لأحوال عدم الاطلاع على غيبه .

ومعنى { لا يظهر على غيبه أحداً } : لا يُطلع ولا ينبىء به ، وهو أقوى من يطلع لأن { يظهر } جاء من الظهور وهو المشاهدة ولتضمينه معنى : يطلع ، عدي بحرف { على } .

ووقوع الفعل في حيّز النفي يفيد العموم ، وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حيّزه يفيد العموم .

وحرف { على } مستعمل في التمكن من الاطلاع على الغيب وهو كقوله تعالى { وأظهره الله عليه } [ التحريم : 3 ] فهو استعلاء مجازي .

واستثنى من هذا النفي من ارتضاه ليطلعه على بعض الغيب ، أي على غيب أراد الله إظهاره من الوحي فإنه من غيب الله ، وكذلك ما أراد الله أن يؤيد به رسوله صلى الله عليه وسلم من إِخبار بما سيحدث أو إطلاع على ضمائر بعض الناس .