جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا} (26)

{ عالم الغيب } أي : هو عالمه ، { فلا يظهر } : لا يطلع{[5169]} ، { على غيبه{[5170]} } ، المختص به بدلالة الإضافة ، { أحدا }


[5169]:إطلاع الأنبياء من الملك وهو علم، أو من إلقاء الله في روعهم فهو أيضا علم، وإما للأولياء من الكرامات، وأن تضم إليها علامات الصدق، فما هي إلا ظن غاية الأمر أنها ربما تصل إلى الظن الغالب، وهو ليس بعلم، وقوله لا يظهر على غيبه أحدا ينادي على أن المراد منه العلم/12 وجيز.
[5170]:على قوله:"فلا يظهر على غيبه أحدا" قال الواحدي: وفي هذا دليل على من ادعى أن النجوم تدل على ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن، قال في الكشاف: وفي هذا إبطال للكرامات، لأن الذين تضاف إليهم الكرامات، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالإطلاع على الغيب، وفيه أيضا إبطال للكهانة والسحر والتنجيم؛ لأن أصحابها أبعد شيء من الارتضاء، وأدخله في السخط. قال الرازي: وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فيحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة؛ لأنه واقع بعد قوله:{أقريب ما توعدون} الآية، فإن قيل: فما معنى الاستثناء حينئذ؟ قلنا: لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا وقد قال:{ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا}(الفرقان:25)، فتعلم الملائكة حينئذ قيام الساعة، أو هو استثناء منقطع أي: من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه، ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مردة الجن والإنس، ويدل على لأنه ليس المراد أنه لا يطلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل أنه ثبت كما يقارب التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين، وقد عرفنا بحديث النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى، فثبت أن الله قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضا أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا بخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقا فيها، وأيضا قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خرسان، وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها، قال: وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها، وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها، وقال: فحصت عن حالها ثلاثين سنة فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخبارا مطابقا، وأيضا فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، ويوجد ذلك في السحرة أيضا، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة، وإن كانت قد تتخلف فلو قلنا: إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيكون التأويل ما ذكرنا انتهى كلامه بمعناه. قال محمد بن علي الشوكاني: أما قوله: إذ لا صيغة عموم في غيبه، فبالباطل فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرح به أئمة الأصول وغيرهم، وأما قوله: أو هو استثناء منقطع فمجرد دعوى يأباه النظم القرآني، وأما قوله: إن شقا وسطيحا الخ فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع، ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان فيخلطون الصدق بالكذب كما ثبت في الحديث الصحيح، وفي قوله: إلا من خطف الخطفة ونحوها من الآيات فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقا لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام والتحية، وقالوا:" وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا"، فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية، وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث" إن في هذه الأمة محدثين، وإن منهم عمر"، فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا نقضا وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله: في آخر كلامه، فلو قلنا: إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له: ما هذه بأول زلة من زلاتك وسقطه من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه، وأمثال نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجبا لك أيكون ما بلغك من خير هذه المرأة، ونحوه موجبا لتطرق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا: وإذا رامت الذبابة للشمس *** غطاء مدت عليها جناحا وقلت من أبيات منها: مهب رياح سده بجناح *** وقابل بالمصباح ضوء صباح. فإن قلت إذا قد تقرر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته، قلت: نعم، ولا مانع من ذلك، وقد ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة، فمن ذلك ما صح أنه قام مقاما أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة، وما ترك شيئا مما يتعلق بالفتن ونحوها حفظ ذلك في حفظه، ونسيه من نسيه، وكذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بما يحدث من الفتن بعده حتى سأله عن ذلك أكابر الصحابة، ورجعوا إليه وثبت في الصحيح، وغيره أن عمر بن الخطاب سأله عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال: إن بينك وبينها بابا، فقال عمر: هل يفتح أو يكسر؟ فقال: بل يكسر، فعلم عمر أنه الباب، وأن كسره قتله كما في الحديث الصحيح المعروف أنه قيل لحذيفة: هل كان عمر يعلم ذلك؟ فقال: نعم كما يعلم أن دون غدا الليلة، كذلك ما ثبت من أخباره لأبي ذر بما يحدث له مما حدث له، وإخباره لعلي بن أبي طالب بخبر ذي الثدية ونحو هذا مما يكثر تعداده، ولو جمع لجاء منه مصنف مستقل، وإذا تقرر هذا فلا مانع من أن يختص بعض صلحاء هذه الأمة بشيء من أخبار الغيب التي أظهرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم- وأظهرها رسوله صلى الله عليه وسلم- لبعض أمته وأظهرها هذا البعض من الأمة لمن بعدهم، فتكون كرامات الصالحين من هذا القبيل، والكل من الفيض الرباني بواسطة الجناب النبوي انتهى كلامه رحمة الله تعالى عليه/12.