ذكر الطبري وغيره أن سبب هذه الآية هو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بمكة يتكلمون في المكتوبة بحوائجهم ويصيحون عند آيات الرحمة والعذاب ويقول أحدهم إذا أتاهم صليتم ؟ وكم بقي ؟ فيخبرونه ونحو هذا ، فنزلت الآية أمراً لهم بالاستماع والإنصات في الصلاة ، وأما قول من قال إنها في الخطبة فضعيف ، لأن الآية مكية ، والخطبة لم تكن إلا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، وكذلك ما ذكر الزهراوي أنها نزلت بسبب فتى من الأنصار كان يقرأ في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ، فأما الاستماع وا?نصات عن الكلام في الصلاة فإجماع ، وأما الإمساك والإنصات عن القراءة فقالت فرقة : يمسك المأموم عن القراءة جملة قرأ الإمام جهراً أو سراً ، وقالت فرقة : يقرأ المأموم إذا أسر الإمام ويمسك إذا جهر ، وقالت فرقة : يسمك المأموم في جهر الإمام عن قراءة السورة ويقرأ فاتحة الكتاب .
قال القاضي أبو محمد : ومع هذا القول أحاديث صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذه الآية واجبة الحكم في الصلاة أن ينصت عن الحديث وما عدا القراءة واجبة الحكم أيضاً في الخطبة من السنة لا من هذه الآية ، ويجب من الآية الإنصات إذا قرأ الخطيب القرآن أثناء الخطبة وحكم هذه الآية في غير الصلاة على الندب أعني في نفس الإنصات والاستماع إذا سمع الإنسان قراءة كتاب الله عز وجل ، وأما ما تتضمنه الألفاظ وتعطيه من توقير القرآن وتعظيمه فواجب في كل حالة ، والإنصات السكوت ، و { لعلكم } على ترجي البشر .
قال القاضي أبو محمد : ولم نستوعب اختلاف العلماء في القراءة خلف الإمام ، إذ ألفاظ الآية لا تعرض لذلك ، لكن لما عن ذلك في ذكر السبب ذكرنا منه نبذة ، وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال في قوله عز وجل { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } قال الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام من الصلاة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول جمع فيه ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات ، قال الزجّاج : ويجوز أن يكون { فاستمعوا له وأنصتوا } اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه .
يؤذن العطف بأن الخطاب بالأمر في قوله : { فاستمعوا وأنصتوا } وفي قوله : { لعلكم } تابع للخطاب في قوله { هذا بصائر من ربكم } [ الأعراف : 203 ] إلخ ، فقوله : { وإذا قرىء القرآن } من جملة ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله لهم وذلك إعادة تذكير للمشركين تصريحاً أو تعريضاً بأن لا يعرضوا عن استماع القرآن وبأن يتأملوه ليعلموا أنه آية عظيمة ، وأنه بصائر وهدى ورحمة ، لمن يؤمن به ولا يعاند ، وقد علم من أحوال المشركين أنهم كانوا يتناهون عن الإنصات إلى القرآن { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] .
وذكرُ اسم القرآن إظهارٌ في مقام الإضمار ، لأن القرآن تقدم ذكره بواسطة اسم الإشارة فنكتة هذا الإظهار : التنويه بهذا الأمر ، وجعل جملته مستقلة بالدلالة غير متوقفة على غيرها ، وهذا من وجوه الاهتمام بالكلام ومن دواعي الإظهارِ في مقام الإضمار استقريتة من كلام البلغاء .
والاستماع الإصغاء وصيغة الافتعال دالة على المبالغة في الفعل ، والإنصات الاستماع مع ترك الكلام فهذا مؤكد ( لا تسمعوا ) . مع زيادة معنى . وذلك مقابل قولهم : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } [ فصلت : 26 ] ، ويجوز أن يكون الاستماع مستعملاً في معناه المجازي ، وهو الامتثال للعمل بما فيه كما تقدم آنفاً في قوله : { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } [ الأعراف : 198 ] ويكون الإنصات جامعاً لمعنى الإصغاء وترك اللغو .
وهذا الخطاب شامل للكفار على وجه التبليغ ، وللمسلمين على وجه الارشاد لأنهم أرجى للانتفاع بهديه لأن قبله قوله : { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } [ الأعراف : 203 ] .
ولا شبهة في أن هذه الآية نزلت في جملة الآيات التي قبلها وعلى مناسبتها ، سواء أريد بضمير الخطاب بها المشركون والمسلمون معاً ، أم أريد المسلمون تصريحاً والمشركون تعريضاً ، أم أريد المشركون للاهتداء والمسلمون بالأحرى لزيادته .
فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال ، والاهتداء بما يحتوي عليه القرآن من الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المقضي إلى الإيمان به ، ولما جاء به من إصلاح النفوس ، فالأمر بالاستماع مقصود به التبليغ واستدعاء النظر والعملُ بما فيه ، فالاستماع والإنصاتُ مراتب بحسب مراتب المستمعين .
فهذه الآية مجملة في معنى الاستماع والإنصات وفي مقتضى الأمر من قوله : { فاستمعوا له وأنصتوا } ، يُبين بعضَ إجمالها سياقُ الكلام والحملُ على ما يفسر سببها من قوله تعالى : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه } [ فصلت : 26 ] ، ويُحال بيان مجملها فيما زادَ على ذلك على أدلة أخرى . وقد اتفق علماء الأمة على أن ظاهر الآية بمجرده في صور كثيرة مؤول ، فلا يقول أحد منهم بأنه يجب على كل مسلم إذا سمع أحداً يقرأ القرآن أن يشتغل بالاستماع ويُنصت ، إذ قد يكون القارىء يقرأ بمحضر صانع في صنعته فلو وجب عليه الاستماع لأمر بترك عمله ، ولكنهم اختلفوا في محمل تأويلها : فمنهم من خصها بسبب رأوا أنه سبب نزولها ، فرووا عن أبي هريرة أنها نزلت في قراءة الإمام في الجهر ، وروى بعضهم أن رجلاً من الأنصار صلى وراء النبي صلى الله عليه وسلم صلاة جهرية فكان يقرأ في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فنزلت هذه الآية في أمر الناس بالاستماع لقراءة الإمام .
وهؤلاء قصروا أمر الاستماع على قراءة خاصة دل عليها سبب النزول عندهم على نحو يقرب من تخصيص العام بخصوص سببه ، عند من يخصص به ، وهذا تأويل ضعيف ، لأن نزول الآية على هذا السبب لم يصح ، ولا هو مما يساعد عليه نظم الآية التي معها ، وما قالوه في ذلك إنما هو تفسير وتأويل وليس فيه شيء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومنهم من أبقى أمر الاستماع على إطلاقه القريب من العموم ، ولكنهم تأولوه على أمرِ الندب ، وهذا الذي يؤخذ من كلام فقهاء المالكية ، ولو قالوا المراد من قوله قُرىء قراءة خاصة ، وهي أن يقرأه الرسول عليه الصلاة والسلام على الناس لعلْم ما فيه والعمل به للكافر والمسلم ، لكان أحسن تأويلاً .
وفي « تفسير القرطبي » عن سعيد ( بن المسيب ) : كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى فيقول بعضهم لبعض لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله تعالى جواباً لهم { وإذا قُرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } .
على أن ما تقدم من الاخبار في محمل سبب نزول هذه الآية لا يستقيم لأن الآية مكية وتلك الحوادث حدثت في المدينة . أما استدلال أصحاب أبي حنيفة على ترك قراءة المأموم إذا كان الإمام مُسراً بالقراءة ، فالآية بمعزل عنه إذ لا يتحقق في ذلك الترك معنى الإنصات .
ويجب التنبه إلى أن ليس في الآية صيغة من صيغ العموم لأن الذي فيها فعلان هما ( قُرىء ) ( واستمعوا ) والفعل لا عموم له في الإثبات .
ومعنى الشرط المستفاد من ( إذا ) يقتضي إلا عموم الأحوال أو الأزمان دون القراءات وعموم الأزمان أو الأحوالِ لا يستلزم عموم الأشخاص بخلاف العكس كما هو بين .
433- يحيى: عن مالك، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: (هل قرأ أحد منكم معي آنفا؟) فقال رجل: نعم، يا رسول الله. فقال: (إني أقول: مالي أنازع القرآن؟) قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله من الصلوات بالقراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به المصدّقين بكتابه الذين القرآن لهم هدى ورحمة: إذَا قُرِئ عليكم أيها المؤمنون، "القُرآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ "يقول: أصغوا له سمعكم لتتفهّموا آياته وتعتبروا بمواعظه وأنصتوا إليه لتعقلوه وتتدبروه، ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه. "لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ" يقول: ليرحمكم ربكم باتعاظكم بمواعظه، واعتباركم بعبره، واستعمالكم ما بينه لكم ربكم من فرائضه في آية...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} الآية أمر الله تعالى بالاستماع إلى هذا القرآن والإنصات له إذا قرئ. وإن كان في العقل أن من خاطب آخر بمخاطبات يلزمه الاستماع إلى من يخاطبه ويشافهه. فالله سبحانه إذا خاطب بخطاب أولى أن يستمع له مع ما ذكر في غير موضع من القرآن آيات ما يوجب في العقل الاستماع إليه كقوله تعالى: {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة} [الأعراف: 203] وكقوله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} [الأعراف: 3] وغير ذلك من الآيات، ولا سبيل أن يعرف أنه بصائر وأنه هدى وما ذكر إلا بالاستماع إليه والتفكر فيه. فدل أن الاستماع لازم في العقل لمن له أدنى عقل على ما ذكر من الآيات، ولكنه ذكر ههنا الاستماع إليه والله أعلم لوجهين: أحدهما: مقابل ما كانوا يقولون: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} [فصلت: 26] أمر عز وجل المؤمنين بالاستماع إليه...
ثم الاستماع إليه يكون لتفهّم ما أودع فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد وغيره، والإنصات للتعظيم له والتبجيل. ثم الاستماع له [لم] يلزم لنفس التلاوة، ولكن إنما يلزم لما أودع فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد وغيره ليفهموا ما فيه، ويقبلوا، ويقوموا بوفاء ذلك. وأما سائر الأذكار فإنما صارت عبادة لنفسها. لذلك لم يلزم الاستماع إلى سائر الأذكار، ولزم لتلاوة القرآن كلام الله وكتابه. ومن الجفاء والاستخفاف أن يكتب إنسان إلى أخيه كتابا، لا ينظر فيه، ولا يستمع له. فترك الاستماع إلى كتاب الله أعظم في الجفاء والاستخفاف، ولأن القرآن يجهر، وسائر الأذكار لا تجهر...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
وبالجملة، لا يخفى على عاقل أن الله سبحانه وتعالى إذا أمر بالاستماع والإنصات، فإنما أمر به ليكون داعياً إلى ترك باطل من اللهو والهزء وأشغال الدنيا،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِذَا قرئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة. وقيل: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن. وقيل معناه: وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له. وقيل: معنى فاستمعوا له: فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه...
قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}
اعلم أنه تعالى لما عظم شأن القرآن بقوله: {هذا بصائر من ربكم} أردفه بقوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: الإنصات: السكوت والاستماع...
المسألة الثانية: لا شك أن قوله: {فاستمعوا له وأنصتوا} أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبا، وللناس فيه أقوال:
القول الأول: وهو قول الحسن وقول أهل الظاهر أنا نجري هذه الآية على عمومها ففي أي موضع قرأ الإنسان القرآن وجب على كل أحد استماعه والسكوت، فعلى هذا القول يجب الإنصات لعابري الطريق، ومعلمي الصبيان.
والقول الثاني: أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة...
والقول الثالث: أن الآية نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام...
والقول الرابع: أنها نزلت في السكوت عند الخطبة... وفي الآية قول خامس وهو أن قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} خطاب مع الكفار في ابتداء التبليغ وليس خطابا مع المسلمين، وهذا قول حسن مناسب؛ وتقريره: أن الله تعالى حكى قبل هذه الآية أن أقواما من الكفار يطلبون آيات مخصوصة ومعجزات مخصوصة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتيهم بها قالوا لولا اجتبيتها، فأمر الله رسوله أن يقول جوابا عن كلامهم إنه ليس لي أن أقترح على ربي، وليس لي إلا أن أنتظر الوحي، ثم بين تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها في صحة النبوة، لأن القرآن معجزة تامة كافية في إثبات النبوة وعبر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله: {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فلو قلنا إن قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} المراد منه قراءة المأموم خلف الإمام لم يحصل بين هذه الآية وبين ما قبلها تعلق بوجه من الوجوه، وانقطع النظم، وحصل فساد الترتيب، وذلك لا يليق بكلام الله تعالى، فوجب أن يكون المراد منه شيئا آخر سوى هذا الوجه، وتقريره أنه لما ادعى كون القرآن بصائر وهدى ورحمة، من حيث إنه معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، وكونه كذلك لا يظهر إلا بشرط مخصوص، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ القرآن على أولئك الكفار استمعوا له وأنصتوا حتى يقفوا على فصاحته، ويحيطوا بما فيه من العلوم الكثيرة، فحينئذ يظهر لهم كونه معجزا دالا على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فيستعينوا بهذا القرآن على طلب سائر المعجزات، ويظهر لهم صدق قوله في صفة القرآن: {إنه بصائر وهدى ورحمة} فثبت أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه استقام النظم وحصل الترتيب الحسن المفيد، ولو حملنا الآية على منع المأموم من القراءة خلف الإمام فسد النظم واختل الترتيب، فثبت أن حمله على ما ذكرناه أولى، وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له} خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في معرض الاحتجاج بكونه معجزا على صدق نبوته، وعند هذا يسقط استدلال الخصوم بهذه الآية من كل الوجوه، ومما يقوى أن حمل الآية على ما ذكرناه أولى، وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم قالوا: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} فلما حكى عنهم ذلك ناسب أن يأمرهم بالاستماع والسكوت، حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن من الوجوه الكثيرة البالغة إلى حد الإعجاز.
والوجه الثاني: أنه تعالى قال قبل هذه الآية: {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فحكم تعالى بكون هذا القرآن رحمة للمؤمنين على سبيل القطع والجزم.
ثم قال: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} ولو كان المخاطبون بقوله: {فاستمعوا له وأنصتوا} هم المؤمنون لما قال: {لعلكم ترحمون} لأنه جزم تعالى قبل هذه الآية بكون القرآن رحمة للمؤمنين قطعا فكيف يقول بعده من غير فصل لعل استماع القرآن يكون رحمة للمؤمنين؟ أما إذا قلنا: إن المخاطبين بقوله: {فاستمعوا له وأنصتوا} هم الكافرون، صح حينئذ قوله: {لعلكم ترحمون} لأن المعنى فاستمعوا له وأنصتوا فلعلكم تطلعون على ما فيه من دلائل الإعجاز، فتؤمنوا بالرسول فتصيروا مرحومين، فثبت أنا لو حملناه على ما قلناه حسن قوله: {لعلكم ترحمون} ولو قلنا إن الخطاب خطاب مع المؤمنين لم يحسن ذكر لفظ «لعل» فيه. فثبت أن حمل الآية على التأويل الذي ذكرناه أولى، وحينئذ يسقط استدلال الخصم به من كل الوجوه، لأنا بينا بالدليل أن هذا الخطاب ما يتناول المؤمنين، وإنما تناول الكفار في أول زمان تبليغ الوحي والدعوة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرحمون} لما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة أمر باستماعه إذا شرع في قراءته وبالإنصات وهو السكوت مع الإصغاء إليه لأنّ ما اشتمل على هذه الأوصاف من البصائر والهدى والرحمة حريّ بأن يصغي إليه حتى يحصل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة وينتفع بها فيستبصر من العمى ويهتدي من الضلال ويرحم بها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما عظم الله شأن القرآن، فكان التقدير: فآمنوا به تفلحوا، عطف عليه قوله: {وإذا قرئ القرآن} أي وهو هذا الذي يوحى إليّ، فتأدبوا وتواضعوا لأنه صفة ربكم {فاستمعوا له} أي ألقوا إليه أسماعكم مجتهدين في عدم شاغل يشغلكم عن السمع. ولما كان بعض الفهماء يسمع وهو يتكلم، أشار إلى أن هذا الكتاب أعلى قدراً من أن يناله من يشتغل عنه بأدنى شغل فقال: {وأنصتوا} أي للتأمل والتدبر لتنجلي قلوبكم فتعلموا حقيقته فتعلموا بما فيه ولا يكون في صدوركم حرج منه؛ ولما كان ظاهر الآية وجوب الإنصات لكل قارئ على كل أحد، رغب فيه تعظيماً لشأنه فقال: {لعلكم ترحمون} أي لتكونوا على رجاء من أن يكرمكم ربكم ويفعل بكم كل ما يفعله الراحم مع المرحوم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه دلالة على الطريقة الموصلة لنيل الرحمة بالقرآن والحصانة من نزغ الشيطان، وهي الاستماع له إذا قرئ والإنصات مدة القراءة. والاستماع أبلغ من السمع لأنه إنما يكون بقصد ونية وتوجيه الحاسة إلى الكلام لإدراكه، والسمع ما يحصل ولو بغير قصد، والإنصات السكوت لأجل الاستماع حتى لا يكون شاغلا من الإحاطة بكل ما يقرأ. فمن استمع وأنصت كان جديرا بأن يفهم ويتدبر، وهو الذي يرجى أن يرحم. والآية تدل على وجوب الاستماع والإنصات للقرآن إذا قرئ. قيل مطلقا سواء كانت القراءة في الصلاة أو خارجها، وهو مروي عن الحسن البصري وعليه أهل الظاهر، وخصه الجمهور بقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم في عهده وبقراءة الصلاة والخطبة من بعده، وزعم بعضهم أن الآية نزلت في خطبة الجمعة، وهو غلط فإن الآية مكية وصلاة الجمعة شرعت بعد الهجرة. وقال بعضهم إن الأمر للندب لا للوجوب، ولكن روي أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فحرم بنزولها الكلام فيها...
ويجب على كل مؤمن بالقرآن أن يحرص على استماعه عند قراءته كما يحرص على تلاوته، وأن يتأدب في مجلس التلاوة، وملاك هذا الأدب للقارئ أن لا يكون منه ولا من غيره ولا من حال المكان ما يعد في اعتقاده أو في عرف الناس منافيا للأدب، وقد ذكر الفقهاء في المسألة آدابا وأحكاما قد يختلف بعضها باختلاف الاعتقاد والعرف...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب اللّه يتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه. وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يتلى كتاب اللّه، فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب اللّه حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحيثما قرئ القرآن، واستمعت له النفس وأنصتت، كان ذلك أرجى لأن تعي وتتأثر وتستجيب؛ فكان ذلك أرجى أن ترحم في الدنيا والآخرة جميعاً.. إن الناس يخسرون الخسارة التي لا يعارضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن.. وإن الآية الواحدة لتصنع أحياناً في النفس -حين تستمع لها وتنصت- أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والتكيف والرؤية والإدراك والطمأنينة والراحة، والنقلة البعيدة في المعرفة الواعية المستنيرة.. مما لا يدركه إلا من ذاقه وعرفه! وإن العكوف على هذا القرآن -في وعي وتدبر لا مجرد التلاوة والترنم!- لينشئ في القلب والعقل من الرؤية الواضحة البعيدة المدى؛ ومن المعرفة المطمئنة المستيقنة؛ ومن الحرارة والحيوية والانطلاق! ومن الإيجابية والعزم والتصميم؛ ما لا تدانيه رياضة أخرى أو معرفة أو تجريب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا الخطاب شامل للكفار على وجه التبليغ، وللمسلمين على وجه الارشاد لأنهم أرجى للانتفاع بهديه لأن قبله قوله: {وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [الأعراف: 203]. ولا شبهة في أن هذه الآية نزلت في جملة الآيات التي قبلها وعلى مناسبتها، سواء أريد بضمير الخطاب بها المشركون والمسلمون معاً، أم أريد المسلمون تصريحاً والمشركون تعريضاً، أم أريد المشركون للاهتداء والمسلمون بالأحرى لزيادته. فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال، والاهتداء بما يحتوي عليه القرآن من الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المقضي إلى الإيمان به، ولما جاء به من إصلاح النفوس، فالأمر بالاستماع مقصود به التبليغ واستدعاء النظر والعملُ بما فيه، فالاستماع والإنصاتُ مراتب بحسب مراتب المستمعين...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
القراءة للقرآن عبادة من القارئ؛ لأنه يتلو كلام الله تعالى، وأي منزلة في القربى إلى الله تعالى أعلى من أن يكون متحدثا بحديث الله فهو يتكلم بكلام خالق الوجود، وتجري على لسانه عباراته جل وعلا، ويرطب لسانه بأطيب كلام، فهو عبادة؛ ولذلك وجب أن يكون متطهرا من الجنابة ويحسن أن يكون على طهارة كاملة. إن قراءة القرآن سمو إلى المكان الأعلى والمقدس الأقدس لمن تدبر موقفه عند القراءة ومقامه. والاستماع إلى القراءة عبادة، إذا استشعر بأن الله تعالى يخاطبه بالقرآن من أعلى الملكوت، وهو عن يستمع يناهد إلى مقام رب العزة فيستمع إليه، أكاد أرى أن هذا مقام طهر، لا يستمع إليه من به نجاسة من جنابة وإذا كان الفقهاء لم يصرحوا بهذا فإني أراه مقتضى مقام الطهر لمستمع أطهر قول في الاستماع افتعل من السماع أي طلب سماعه، والإقبال عليه، وتلقيه بقوة وتقبل معانيه؛ ولذا قال بعض المفسرين: إن الاستماع هو تدبر المعاني، والاستبصار بها، وإدراك مراميها ومغازيها، فليس المراد مجرد السماع، بل السمع في تدبر وتفهم وتذكر واعتبار. وقال تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} الإنصات معناه السكوت للاستماع والمراعاة، والإصغاء، فمعنى {أنصتوا}، أي هيئوا أنفسكم للاستماع وأعدوها وراعوا ما تسمعون، وكان الإصغاء تقدمه للاستماع، بأن يفرغ النفس له، ويقدم عليه، كأنه مقدم علمي صاحب الكلام، وهو رب العالمين، ألم تر الناس وهم يقدمون على استماع كلام عظيم من عظماء الأرض في سلطانه، يستعدون وينصتون فكيف بكلام مالك الملك ذي الجلال والإكرام والإنعام. القرآن قراءته عبادة، والاستماع إليه مع التدبر والتأمل وتعرف أسراره عبادة، وهو جزء من أكبر عبادة وهي الصلاة...