محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ} (204)

[ 204 ] { وإذا قرئ القرآن فاستمِعُوا له وأنصِتُوا لعلكم تُرْحَمُون ( 204 ) } .

{ وإذا قرئ القرآن فاستمِعُوا له وأنصِتُوا } أي عن حديث النفس وغيره { لعلكم تُرْحَمُون } لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة ، أرشد إلى طريق الفوز بما انطوى عليه من منافعه الجليلة . أي وإذا قرئ القرآن الذي ذكرت خصائصه ، فاستمعوا له ، أي أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه ، وتتدبروا مواعظه ، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضي ، إعظاما له واحتراما ، لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أعظم ثمراته ، لا كما يعتمده كفار قريش من قولهم : { لا تسمَعُوا لهذا القرآن والْغوْا فيه }{[4284]} .

تنبيهات :

الأول : ظاهر الآية يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها ، وعليه أهل الظاهر ، وهو قول الحسن البصريّ وأبي مسلم الأصفهانيّ . وقد روى مسلم{[4285]} عن أبي موسى الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبّر فكبّروا ، وإذا قرأ فأنصتوا " . وكذا رواه أهل ( السنن ) من حديث أبي هريرة .

وروى الإمام أحمد{[4286]} وأهل ( السنن ) عن أبي هريرة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : هل قرأ أحد منكم معي آنفا ؟ قال رجل : نعم . يا رسول الله . قال : إني أقول : ما لي أنازَع القرآن ؟ قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة ، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم "

قال الترمذي{[4287]} هذا حديث حسن . وصححه أبو حاتم الرازيّ . نعم وردت السنة الصحيحة باستثناء الفاتحة وحدَها للمأموم . وذلك فيما رواه عبادة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : إني أراكم تقرءون وراء إمامكم ؟ قال : قلنا : يا رسول الله  ! إي والله . قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن ، فإن لا صلاة لمن لا يقرأ بها " - رواه أبو داود{[4288]} والترمذي{[4289]}- وفي لفظ : " فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت/ به ، إلا بأم القرآن " - رواه أبو داود والنسائي ، والدارقطنيّ وقال : رواته كلهم ثقات .

وأخرج ابن حبان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام ، والإمام يقرأ ؟ فلا تفعلوا ، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه " .

وأما حديث أبي هريرة المتقدم ، فلا يستدل به على عدم قراءة المأموم مطلقا ، بل جهرا . لأن المنازعة إنما تكون مع جهر المأموم ، لا مع إسراره . ولو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان الاستفهام الإنكاري فيه عاما لجميع القرآن ، أو مطلقا في جميعه . وحديث عبادة خاص أو مقيّد ، ولا تعارض بين عام وخاص ، أو مطلق ومقيد ، لابتناء الأول على الثاني . وكذا يقال في عموم الآية . وفي هذا جمع بين دلالة الكتاب ، وصحيح السنة ، إذ جاءنا بها من جاء بالقرآن .

الثاني : روي عن كثير من السلف أن الآية نزلت في الصلاة . وعن بعضهم : فيها وفي الخطبة يوم الجمعة . وعن بعضهم : فيهما وفي خطبة الأضحى والفطر . وقد قدمنا في مقدمة الكتاب مصطلح السلف في قولهم ( نزلت هذه الآية في كذا ) وبينّا أنه قد يراد بذلك ، أن الآية تشمل ذلك الشيء لدخوله في عمومها ، لا أنه سبب لنزولها ، وذلك في بعض المقامات ، وما هنا منه . وبتحقيق هذا يسقط ما للرازيّ هنا من أنه إذا قيل بنزولها في منع المأموم من الجهر بالقراءة ، يذهب تناسب الآية مع ما قبلها من إفحام المشركين ، بأن يستمعوا لقراءته ، ليقفوا على إعجازه . وما للخازن ؛ بأن الآية مكية ، وخطبة الجمعة والعيدين شرعتا بالمدينة-فافهمه- .

الثالث : روى الإمام أحمد{[4290]} عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استمع إلى آية من كتاب الله ، كتبت له حسنة مضاعفة ، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة " . قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى .


[4284]:- [41/ فصلت/ 26].
[4285]:- أخرجه مسلم في: 4- كتاب الصلاة، حديث 77- 81 عن أنس و82 عن عائشة و86 عن أبي هريرة (طبعتنا) أما حديث أبي موسى فلم أهتد إليه.
[4286]:- أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة 240 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) والحديث رقم 7268 (طبعة المعارف).
[4287]:- أخرجه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة، 131- باب القراءة في الفجر، حديث 823.
[4288]:- أخرجه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة، 131- باب القراءة في الفجر، حديث 823.
[4289]:- أخرجه الترمذي في: 2- كتاب الصلاة، 69- باب لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب.
[4290]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 341 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي).