اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ} (204)

قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ القرآن فاستمعوا لَهُ } الآية .

لمَّا عظَّم شأن القرآن بقوله : " هَذَا بصائرُ " أردفهُ بقوله : { وَإِذَا قُرِئَ القرآن } .

قوله له متعلقٌ ب : استَمِعُوا على معنى لأجله ، والضمير للقرآن ، وقال أبو البقاءِ : يجوزُ أن يكون بمعنى للَّه ، أي لأجله فأعاد الضمير على الله وفيه بعدٌ ، وجوَّز أيضاً أن تكون اللام زائدةً : أي فاستمعُوهُ ، وقد تقدَّم أنَّ هذا لا يجوزُ عند الجمهور إلا في موضعين إمَّا تقديم المعمولِ ، أو كون العامل فرعاً ، وجوَّز أيضاً أن تكون بمعنى إلى ، ولا حاجة إليه .

قوله " وأنصتُوا " الإنصاتُ : السُّكوت للاستماعِ . قال الكميتُ : [ الطويل ]

أبُوكَ الذي أجْدَى عَلَيَّ بِنصْرِهِ *** فأنْصَتَ عَنِّي بعده كُلَّ قَائِلِ{[17127]}

قال الفراء : ويقال : نصت ونصت بمعنى واحدٍ ، وقد جاء أنْصَت متعديّاً .

فصل

فقوله : { فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } أمرٌ ، وظاهر الأمر للوجوب ، فيقتضي أن يكون الاستماعُ والسكوتُ واجباً ولعله يجوز أن تكون بحسب المخاطبين ، وأن تكون للتعليل وفيه أقوال .

أحدها : قال الحسنُ وأهلُ الظاهر : يجب الاستماعُ والإنصات لكل قارئ ، سواء كان معلم صبيان أو قارئ طريق .

الثاني : تحريم الكلام في الصَّلاة .

قال أبو هريرة : كانوا يتكلَّمون في الصَّلاة فنزلت هذه الآية ، فأمروا بالإنصات{[17128]} .

وقال قتادةُ : كان الرَّجُلُ يأتي وهُم في الصَّلاةِ ، فيسألهم : كم صلَّيتم وكم بقي ؟ وكانُوا يتكلَّمون في الصَّلاةِ بحوائجهم{[17129]} فأنزل اللَّهُ هذه الآية .

الثالث : نزلت في ترك الجَهْر بالقراءة وراء الإمام .

قال ابنُ عبَّاسٍ : قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة المكتوبةِ ، وقرأ أصحابه وراءهُ رافعينَ أصواتهم ؛ فخلطوا عليهم فنزلت هذه الآية{[17130]} ، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه .

وقال الكلبيُّ : كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار{[17131]} ، وعن ابن مسعود أنَّهُ سمع ناساً يقرءون مع الإمام فلمَّا انصرف ، قال : أما آن لكم أن تفقهوا { وَإِذَا قُرِئَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } وهو قول الحسن والزهري والنخعي{[17132]} وقال سعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد : إنَّ الآية في الخطبة ، أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة ، وهذا بعيدٌ لأنَّ الآية مكَّية والجمعة وجبت بالمدينة{[17133]} .

فصل

اختلفوا في القراءة خلف الإمام في الصَّلاة ، فروي عن عمر ، وعثمان ، وعليِّ ، وابن عباسٍ ومعاذ ، وجوب القراءة سواء جهر الإمامُ بالقراءة أو أسرَّ ، وهو قول الأوزاعي ، والشافعي ؛ وروي عن ابن عمر ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد : أنَّ المأموم يقرأ فيما أسر الإمام فيه ، ولا يقرأ إذا جهر ، وبه قال الزهري " : ومالك ، وابن المبارك ، وأحمد وإسحاق ، وروي عن جابر أنَّ المأموم لا يقرأ سواء أسر الإمام أم جهر ، وبه{[17134]} قال الثَّوري ، وأصحابُ الرأي ، وتمسك من لا يرى القراءة خلف الإمام بظاهر هذه الآية ، ومن أوجبها قال : الآية في غير الفاتحةِ ، ويقرأ الفاتحة في سكتاتِ الإمام ولا ينازعُ الإمام في القراءة .


[17127]:البيت للراعي. ينظر: مجاز القرآن 2/47، الجمهرة 2/360، حاشية الشهاب 4/248، اللسان (نصت)، الدر المصون 3/390.
[17128]:ذكره البغوي في تفسيره (2/225).
[17129]:ينظر: تفسير الرازي (15/83).
[17130]:ينظر: المصدر السابق.
[17131]:ذكره البغوي في تفسيره (2/226).
[17132]:ينظر: المصدر السابق.
[17133]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/161).
[17134]:أشار إليه البغوي في تفسيره (2/226).