الآية 204 وقوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } الآية أمر الله تعالى بالاستماع إلى هذا القرآن والإنصات له إذا قرئ . وإن كان في العقل أن من خاطب آخر بمخاطبات يلزمه الاستماع إلى من يخاطبه ، ويشافهه . فالله سبحانه إذا خاطب بخطاب{[9295]} أولى أن يستمع له مع ما ذكر في غير موضع من القرآن آيات ما يوجب في العقل الاستماع إليه كقوله تعالى : { هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة } [ الأعراف : 203 ] وكقوله تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 3 ] وغير ذلك من الآيات ، ولا سبيل أن يعرف أنه بصائر وأنه هدى وما ذكر [ إلا ]{[9296]} بالاستماع إليه . والتفكر فيه .
فدل أن الاستماع لازم في العقل لمن{[9297]} له أدنى عقل على ما ذكر من الآيات . ولكنه [ ذكر ههنا الاستماع إليه ]{[9298]} والله أعلم لوجهين :
أحدهما : مقابل ما كانوا يقولون : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } [ فصلت : 26 ] أمر عز وجل المؤمنين بالاستماع إليه مكان قولهم : { لا تسمعوا لهذا القرآن } وأمر بالإنصات إلى{[9299]} ما يقولون { والغوا فيه } .
والثاني : يجوز أن يكون أمر بالاستماع إليه في الصلاة على ما قال بعض أهل التأويل : إنه في الصلاة . وقال بعضهم : في حال الخطبة لما يسبق إلى أوهامهم أنه لما اشتغلوا بغيرها من العبادات ، ولزمهم أنواع القرب أن يسقط عنهم حق الاستماع ، أمر بالاستماع إليه والإنصات له ليعلموا أن حق الاستماع لازم في كل حال .
ثم الاستماع إليه يكون لتفهّم ما أودع فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد وغيره ، والإنصات للتعظيم له والتبجيل .
ثم الاستماع له [ لم ]{[9300]} يلزم لنفس التلاوة ، ولكن إنما يلزم لما أودع فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد وغيره ليفهموا ما فيه ، ويقبلوا ، ويقوموا بوفاء ذلك .
وأما سائر الأذكار فإنما صارت عبادة لنفسها . لذلك لم يلزم الاستماع إلى سائر الأذكار ، ولزم لتلاوة القرآن كلام الله وكتابه . ومن الجفاء والاستخفاف أن يكتب إنسان إلى أخيه كتابا ، لا ينظر فيه ، ولا يستمع له .
فترك الاستماع إلى كتاب الله أعظم في الجفاء والاستخفاف ولأن القرآن يجهر ، وسائر الأذكار لا تجهر . فإن كانت تجهر ، يستمع{[9301]} إليها كما يستمع إلى القرآن ، والله أعلم .
وذكر في بعض القصة أن الآية نزلت في الصلاة لأن رسول الله إذا قرأ في صلاته كانوا يقولون مثل ذلك ، فنزلت الآية بالنهي عن ذلك والأمر بالاستماع إليه كما يستمع إلى القرآن ، والله أعلم . /194-أ/ وذكر أنهم كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار . فنزلت الآية . لذلك لا ندري كيف كانت القصة ؟ وفيم كانت ؟ وقد يحتمل ما ذكرنا آنفا .
ثم إن كانت الآية في الصلاة ففيه دلالة النهي عن القراءة خلف الإمام لأنه أمر بالاستماع إليه والإنصات له .
وعلى ذلك جاءت الأخبار . روي عن أبي العالية [ أنه ]{[9302]} قال ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه .
حتى [ نزلت الآية ]{[9303]} { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } فسكتوا ) [ السيوطي في الدر المنثور : 3/635 ] .
وعن علي بن أحمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قرأ في صلاة الفجر الواقعة ، وقرأها رجل خلفه ، فلما فرغ من الصلاة قال : من الذي ينازعني في هذه السورة ؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله . فأنزل الله { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } [ بمعناه عن أبي هريرة : ابن ماجه : 848 ] . وغير ذلك من الأخبار .
وقال{[9304]} قوم : إن الإنصات الذي أمر به المؤتمّ معناه : ألا يجهر بقراءته ، وليس فيه نهي أن يقرأ في نفسه .
وزعم بعضهم أن القارئ مخفيا يسمى ناصتا منصتا . واستدل بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه [ أنه ]{[9305]} قال ( [ كان ]{[9306]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا كبّر سكت بين التكبير والقراءة . قلت : [ بأبي أنت وأمي [ أرأيت ]{[9307]} سكاتك بين التكبير والقراءة . أخبرني ما تقول : قال : أقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المغرب والمشرق ، وغير ذلك من الدعوات ) [ البخاري : 744 ] . فقال هذا القائل : قد سمى النبي صلى الله عليه وسلم القارئ مخفيا ساكتا . الصامت مثل الساكت . فيجوز أن يسمى صامتا ، وهو أن يقرأ مخفيا كما يسمى ساكتا .
قال العمّيّ . غلط هذا القائل في تشبيه الصامت بالساكت لأن الأسماء لا تقاس ، وإنما يطلق في كل واحد منها ما أطلقته اللغة فيه .
ومما يبيّن غلطه أن الله يقول : { فاستمعوا له وأنصتوا } فلو كان القارئ مخفيا يسمى صامتا ناصتا مستمعا . وإنما يكون مستمعا صامتا إذ صمت فلم يقرأ . فمن أطلق له أن يقرأ ، والإمام يقرأ ، فلم يستمع ، ولا أنصت .
ومما يدل على غلطه أيضا أن العلماء جميعا ينهون المؤتمّ عن القراءة . وإنما يأمر بالقراءة خلف الإمام أن يقرأ إذا سكت إمامه ، ويأمر هؤلاء الإمام أن يقف ساعة إذا فرغ من قراءته حتى يقرأ المؤتمّون . فلو كانوا يجعلون القارئ في نفسه ، والإمام يقرأ جهرا ، صامتا ما أمره بتأخير القراءة حتى يفرغ إمامه من القراءة . فهذا يبين غلط المستدل بحديث أبي هريرة في استدلاله .
ومما يدل على أن المؤتمّ منهيّ عن أن يقرأ ، والإمام يجهر ، ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة ، فظُن أنها الصبح ، فلما سلّم أقبل على الناس ، قال : هل يقرأ أحد منكم ؟ فقال رجل : أنا ، فقال النبي : إني أقول : مالي أنازع القرآن ؟ ) [ الترمذي 312 ] قال أبو هريرة : فانتهى الناس عن القراءة في ما يجهر فيه النبي ، فقال قوم : إن أبا هريرة قد نهى{[9308]} الناس عن القراءة خلف النبي في ما جهر فيه . فيقال : إن أبا هريرة لم يرو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم مما يدل على أن المؤتمّ لا يقرأ ، جهر الإمام ، أو خافت ، قول النبي ( مالي أنازع القرآن ) وقد علمنا أن المؤتمّ لم يجهر بقراءته ، فيتأوّل متأوّل منازعته النبي صلى الله عليه وسلم على أنه شغل ، فلا وجه لقوله ( مالي أنازع القرآن ) ؟ إلا بنهيه المؤتمّ عن أن يقرأ ، جهر إمامه ، أو خافت .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ما يبين النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه ، أو يخافت ، ما روي عن عمران [ بن حصين ]{[9309]} أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه الظهر ، فلما قضى صلاته قال : أيّكم قرأ { سبّح اسم ربك الأعلى } [ الأعلى : 1 ] ؟ فقال بعض الناس : أنا يا رسول الله ، فقال : قد عرفت أن بعضكم خالجنيها ) [ الطبراني في الكبير 18/211 ورقمه 522 ] فبيّن عمران بن حصين أن الرجل خافت بقراءته ، ودل أن النهي الذي رواه أبو هريرة لم يكن في حال جهر الإمام دون مخافتته ، وأن المؤتمّ منهيّ عن القراءة خلف الإمام في كل الصلوات .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن القراءة خلف الإمام أحاديث كثيرة : ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمران [ بن ]{[9310]} حصين عنه ، وما روي عن عبد الله [ بن مسعود ]{[9311]} : ( كنا نقرأ خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خلطتم عليّ القرآن ) [ ابن أبي شيبة 1/376 ] .
فإن قيل : لعلهم كانوا يجهرون بالقرآن ، فنهى عن الجهر . قيل له : لم ينقل لنا في شيء من الأخبار أن المؤتمّين كانوا يقرؤون جهرا . ولو كانوا يقرؤون جاهرين لأدّى ذلك إلينا كما أدّى أنهم كانوا يقرؤون .
وفي ذلك وجه آخر أنه لم يكن النهي عن الجهر خاصة ، ولكن للقراءة نفسها{[9312]} ، ما روي عن أبي وائل [ أنه ]{[9313]} قال : سألت عبد الله بن مسعود عن القراءة خلف الإمام ، فقال : انصت فإن الصلاة شغلا ، وسيكفيك ذلك الإمام .
وعن عبد الله بن شدّاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) [ البيهقي في الكبرى 2/161 ] وعن جابر بن عبد الله أن النبي ، [ كان يصلي ]{[9314]} ورجل خلفه [ يقرأ ]{[9315]} فنهاه رجل من أصحاب النبي عن القراءة في الصلاة فتنازعا فيه ، حتى ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( من صلى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة ) [ الدارقطني 1221 ] وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( وإذا قرأ الإمام فأنصتوا ) [ مسلم 404/63 ]
وروي عن أبي هريرة [ أنه ]{[9316]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا كبّر فكبّروا ، وإذا قرأ فأنصتوا ) [ النسائي 2/141 ] وغير ذلك من الأحاديث .
وأكثر ما يحتجّ به المخافت لعلمائنا ، رحمهم الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( لا صلاة لمن يقرأ بإمام القرآن ) [ مسلم 394/26 ] يرويه عبادة بن الصامت .
قال سفيان : هذا عندنا في من يصلي وحده . فذلك محتمل ، والأحاديث التي جاءت مفسّرة في النهي عن القراءة خلف الإمام .
فإن قال : [ قائل ]{[9317]} : يترك المؤتمّ القراءة في ما يجهر فيه إمامه بحديث أبي هريرة ، ويقرأ في ما يخافت بحديث عبادة بن الصامت ليصح{[9318]} حديث أبي هريرة وحديث عبادة [ بن الصامت ]{[9319]} جميعا ، قيل له : فهلاّ جعلته في المصلي وحده ليصح حديث عبادة [ بن الصامت ]{[9320]}وحديث عمران بن حصين لأن حديث عمران ينهى عن القرآن في ما خافت [ الأمام ]{[9321]} ، وحديث أبي هريرة في ما يجهر فيه . فإن جعلت حديث أبي هريرة خارجا عن عموم حديث عُبادة فذلك يوجب ألا يقرأ المؤتمّ في ما يجهر فيه إمامه [ أو يخافت ]{[9322]} . ويقال له : هل رأيت فرضا من فرائض الصلاة ساقطا{[9323]} عن المؤتمّ في حال ، وواجبا{[9324]} عليه في حال ؟ فإن قال : لا قيل : ففي إسقاطك تلك القراءة عنه في حال الجهر ما أوجب عليك أن تسقطها عنه في حال المخافتة . وقد احتجّ بعض أصحابنا في ذلك بأن قالوا : وجدنا الرجل إذا جاء إلى الإمام ، وهو راكع ، فكبّر ، ودخل في صلاته ، ولم يقرأ ، فكل يجمع أن صلاته تجزيه . فدل ذلك أن القراءة غير فرض عليه .
فإن قال [ قائل ]{[9325]} : إنما أطلق له ذلك للضرورة ، قيل : لو جاء إلى الإمام ، وهو ساجد ، لم يعتد بتلك الركعة والضرورة قائمة . فلو كانت الضرورة تزيل فرضا لأزالت{[9326]} الركوع عمن لحق إمامه ، وهو/194-ب/ ساجد ، فهي لا تزيل فرض القراءة عمن لحق إمامه . ولكن لا تلزمه القراءة خلف الإمام . فلذلك أجزته{[9327]} صلاته لا للضرورة التي ذكرت ، والله أعلم .
وقد روي عن جماعة من الصحابة [ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ]{[9328]} أنهم قالوا : لا قراءة على من خلف الإمام : منهم عليّ وابن مسعود وجابر وأبو سعيد وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم .
أما عن علي رضي الله عنه [ فقد ]{[9329]} قال : من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة وعن عبد الله [ بن مسعود أنه ]{[9330]} قال : من قرأ خلف الإمام ملئ فوه ترابا . وعن زيد بن ثابت [ أنه ]{[9331]} قال : من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له . وعن [ أبي سعيد أنه ]{[9332]} قال : وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فمه جمرة . [ وكان ابن عمر ]{[9333]} إذا سئل : هل يقرأ أحد خلف الإمام ؟ قال : لا . فإذا صلى أحدكم وحده فليقرأ . وكان ابن عمر لا يقرأ خلف الإمام . وعن أبي سعيد أنه سئل عن القراءة خلف الإمام . فقال{[9334]} : يكفيك ذلك الإمام . وعن ابن عباس أن رجلا سأله : أقرأ خلف الإمام ؟ قال : لا . إلى مثل هذه الأحاديث ذهب أصحابنا . وعلى ذلك دل الكتاب والسّنة وإجماع الصحابة ، وبالله التوفيق .