المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ} (20)

وقوله تعالى : { وشددنا ملكه } عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة ، وقد خصص بعض المفسرين في ذلك أشياء دون أشياء ، فقال السدي : بالجنود . وقال آخرون : بهيبة جلعها الله تعالى له .

وقرأ الجمهور : «وشدَدنا » بتخفيف الدال الأولى ، وروي عن الحسن : «شدّدنا » بشدها على المبالغة .

و { الحكمة } : الفهم في الدين وجودة النظر ، هذا قول فرقة . وقالت فرقة : أراد ب { الحكمة } النبوءة . وقال أبو العالية : { الحكمة } العلم الذي لا ترده العقول .

قال القاضي أبو محمد : هي عقائد البرهان واختلف الناس في { فصل الخطاب } ، فقال ابن عباس ومجاهد والسدي : فصل القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه . وقال علي بن أبي طالب وشريح والشعبي : { فصل الخطاب } إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعي . وقال الشعبي أيضاً وزياد : أراد قول أما بعد ، فإنه أول من قالها ، والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه ، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف ، وهذه صفة قليل من يدركها ، فكان كلامه عليه السلام فصلاً ، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن : { إنه لقول فصل } [ الطارق : 13 ] ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير ، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله : «وأعطيت جوامع الكلم » فإنها في الخلال التي لم يؤتها أحد قبله ، ذكر جوامع الكلم معدودة في ذلك مسلم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ} (20)

الشد : الإِمساك وتمكّن اليد مما تمسكه ، فيكون لقصد النفع كما هنا ، ويكون لقصد الضرّ كقوله : { واشدد على قلوبهم في سورة } [ يونس : 88 ] .

فشدّ الملك هو تقوية ملكه وسلامته من أضرار ثورة لديه ومن غلبة أعدائه عليه في حروبه .

وقد ملك داود أربعين سنة ومات وعمره سبعون سنة في ظل ملك ثابت .

و { الحكمة } : النبوءة . والحكمة في الأعم : العلم بالأشياء كما هي والعمل بالأمور على ما ينبغي ، وقد اشتمل كتاب « الزبور » على حِكَم جمَّة .

و { فصل الخطاب } : بلاغة الكلام وجمعه للمعنى المقصود بحيث لا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان ، ووصف القول ب ( الفصل ) وصف بالمصدر ، أي فاصل . والفاصل : الفارق بين شيئين ، وهو ضدّ الواصل ، ويطلق مجازاً على ما يميز شيئاً عن الاشتباه بضده . وعطفه هنا على الحكمة قرينة على أنه استعمل في معناه المجازي كما في قوله تعالى : { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [ النبأ : 17 ] .

والمعنى : أن داود أوتي من أصالة الرأي وفصاحة القول ما إذا تكلّم جاء بكلام فاصل بين الحقّ والباطل شأن كلام الأنبياء والحكماء ، وحسبك بكتابه « الزبور » المسمّى عند اليهود ب« المزامير » فهو مثل في بلاغة القول في لغتهم .

وعن أبي الأسود الدؤلي : { فصل الخطاب } هو قولُه في خطبه « أما بعد » قال : وداود أول من قال ذلك ، ولا أحسب هذا صحيحاً لأنها كلمة عربية ولا يعرف في كتاب داود أنه قال ما هو بمعناها في اللغة العبرية ، وسميت تلك الكلمة فصل الخطاب عند العرب لأنها تقع بين مقدمة المقصود وبين المقصود . فالفصل فيه على المعنى الحقيقي وهو من الوصف بالمصدر ، والإِضافة حقيقية . وأول من قال : « أما بعد » هو سحبان وائل خطيب العرب ، وقيل : { فصل الخطاب } القضاء بين الخصوم وهذا بعيد إذ لا وجه لإِضافته إلى الخطاب .

واعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل ما أعطي داود فكان أوّاباً ، وهو القائل : « إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة » ، وسخر له جبل حراء على صعوبة مسالكه فكان يتحنّث فيه إلى أن نزل عليه الوحي وهو في غار ذلك الجبل ، وعَرضت عليه جبال مكة أن تصير له ذهباً فأبى واختار العبودية وسخرت له من الطير الحَمَام فبنت وكرها على غار ثور مدة اختفائه به مع الصديق في مسيرهما في الهجرة . وشدّ الله مُلك الإِسلام له ، وكفاه عدوّه من قرابته مثل أبي لهب وابنه عتبة ومن أعدائه مثل أبي جهل ، وآتاه الحكمة ، وآتاه فصل الخطاب قال : « أوتيت جوامع الكَلِم واختصر لي الكلام اختصاراً » بَلْهَ ما أوتيه الكتاب المعجز بلغاء العرب عن معارضته ، قال تعالى في وصف القرآن : { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } [ الطارق : 13 - 14 ] .