المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَنَّهُۥٓ أَهۡلَكَ عَادًا ٱلۡأُولَىٰ} (50)

وعاد : هم قوم هود ، واختلف في معنى وصفها ب { الأولى } ، فقال ابن زيد والجمهور : ذلك لأنها في وجه الدهر وقديمه ، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة ، وقال الطبري : سميت أولى ، لأن ثم عاداً أخيرة وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال .

قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أبين ، لأن هذا الأخير لم يصح . وقال المبرد عاداً الأخيرة هي ثمود ، والدليل قول زهير : [ الطويل ]

*** . كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم{[10734]}

ذكره الزهراوي ، وقيل الأخيرة : الجبارون .

وقرأ ابن كثير وعاصم ، وابن عامر وحمزة ، والكسائي «عاد الأولى » منونة وبهمز . وقرأ نافع فيما روي عنه : «عادا الأولى » بإزالة التنوين والهمز . وهذا كقراءة من قرأ «أحد الله »{[10735]} وكقول الشاعر [ أبو الأسود الدؤلي ] : [ المتقارب ]

****** . ولا ذاكر الله إلا قليلا{[10736]}

وقرأ قوم : { عاداً الأولى } والنطق بها «عادن الأولى » . واجتمع سكون نون التنوين وسكون لام التعريف فكسرت النون للالتقاء ، ولا فرق بينهما وبين قراءة الجمهور ولا ترك الهمز . وقرأ نافع أيضاً وأبو عمرو بالوصل والإدغام «عاد الولى » بإدغام النون في اللام ونقل حركة الهمزة إلى اللام . وعاب أبو عثمان المازني والمبرد هذه القراءة ، وقال : إن هذا النقل لا يخرج اللام عن حد السكون وحذف ألف الوصل أن تبقى كما تقول العرب إذا نقلت الهمزة من قولهم الأحمر فإنهم يقولون الحمر جاء فكذلك يقال هاهنا «عاداً الولى » ، قال أبو علي : والقراءة سائغة ، وأيضاً فمن العرب من يقول : لحمر جاء فيحذف الألف مع النقل ويعتد بحركة اللام ولا يراها في حكم السكون ، وقرأ نافع فيما روي عنه «عاداً الأولى » بهمز الواو ، ووجه ذلك أنه لما لم يكن بين الواو والضمة حائل تخيل الضمة عليها فهمزها كما تهمز الواو المضمومة ، وكذلك فعل من قرأ : «على سؤقه »{[10737]} ، وكما قال الشاعر [ جرير ] : [ الوافر ]

لحَبّ المؤقدان إلي مؤسى***{[10738]} وهي لغة


[10734]:هذا عجز بيت من المعلقة، وهو واحد من الأبيات التي يصف فيها الحرب وينفر منها، والبيت بتمامه مع بيت قبله: فتعرككم عرك الرحى بِثفالها وتلقح كِشافا ثم تنتج فتُتئم فتنتج لكم غِلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم يقول: إن الحرب تعرككم كما تعرك الرحى الحَبّ مع الثفاله وهو الخِرقة التي توضع تحت الرحى ليقع عليها الطحين، والحرب تلقح في السنة مرتين وتلد توأمين، والشؤم: ضد اليُمن، ورجل مشئوم كما يقال رجل ميمون، والأشأم: أفعل من الشؤم وهو مبالغة، وأراد بأحمر عاد أحمر ثمود وهو قدار بن سالف الذي عقر الناقة، يقول: فتلد لكم أبناء في أثناء تلك الحروب كل واحد منهم أشأم كعاقر الناقة، ثم ترضعهم الحرب وتفطمهم، أي تكون ولادتهم ونشأتهم في أثناء الحرب فيصبحون مشائيم على آبائهم، والشاهد هو أنه أراد بأحمر عاد أحمر ثمود، فعاد تطلق على ثمود، وهي عاد الأخيرة.
[10735]:من قوله تعالى في الآيتين الأولى والثانية من سورة (الصمد):{قل هو الله أحد، الله الصمد}، فقد قرئت:[أحد] بدون تنوين.
[10736]:هذا عجز بيت لأبي الأسود الدؤلي-ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي- والبيت بتمامه: فألفيته غير مُستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا وهو في الكتاب، وخزانة الأدب، وابن الشجري، والأغاني، والمغني، واللسان، ويروى أن أبا الأسود أغوته امرأة بجمالها، وزعمت أنها صناع الكف حسنة التدبير، وعرضت عليه الزواج فتزوجها، ولكنه وجدها قد أسرفت في ماله، ومذت يدها إلى خيانته، فهجاها بأبيات منها هذا البيت، وغير مُستعتب: أي غير راجع بالعتاب عن قبيح فعله، وهو يعني هذه المرأة، والشاهد في البيت حذف التنوين من "ذاكر" لالتقاء الساكنين ونصب ما بعده وإن كان الوجه الإضافة.
[10737]:من قوله تعالى في الآية(29) من سورة (الفتح):{فاستوى على سوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار}.
[10738]:هذا صدر بيت قاله جرير من قصيدة له يمدح هشام بن عبد الملك، ويروى: لحبَّ الواقدان، وأحب الموقدين، وأنشده الزمخشري في كشافه كما هنا، والبيت بتمامه: لحب المؤقدان إليك مؤسى وجعدة إذ أضاءهما الوقود وحَبَّ: فعل ماض أصله حبُبَ، مثل كرُم، ومعناه: صار محبوبا، فأدغمت الباء الأولى في الثانية إما للقلب، وإما لنقلها إلى الحاء قبلها، فلِذا روي "لَحَبَّ-بفتح الحاء وضمها- واللام في "لَحَبَّ" لام جواب قسم محذوف، والمُؤقدان هما موسى وجعدة، فإنهما يوقدان نار القرى للضيوف، كناية عن الكرم، والوُقود-بضم الواو-مصدر بمعنى الإيقاد، وبالفتح ما يوقد به من حطب ونحوه، والمعنى: لما أضاء إيقاد النار موسى وجعدة ورأيتهما ذوي ضياء وبهجة صارا محبوبين، والشاهد هو قلب الواو همزة في "المؤقدان"، وفي "مؤسى" إجراء لضمة ما قبلها مجرى ضمتها هي، وهذا هو مذهب سيبويه، وقد سبق الاستشهاد بهذا البيت في أكثر من مناسبة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَنَّهُۥٓ أَهۡلَكَ عَادًا ٱلۡأُولَىٰ} (50)

لما استُوفي ما يستحقه مقام النداء على باطل أهل الشرك من تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وطعنهم في القرآن ، ومن عبادة الأصنام ، وقولهم في الملائكة ، وفاسد معتقدهم في أمور الآخرة ، وفي المتصرف في الدنيا ، وكان معظم شأنهم في هذه الضلالات شبيهاً بشأن أمم الشرك البائدة نقل الكلام إلى تهديدهم بخوف أن يحل بهم ما حل بتلك الأمم البائدة فذكر من تلك الأمم أشهرها عند العرب وهم : عاد ، وثمود ، وقوم نوح ، وقوم لوط .

فموقع هذه الجملة كموقع الجمل التي قبلها في احتمال كونها زائدة على ما في صحف موسى وإبراهيم ويحتمل كونُها مما شملته الصحف المذكورة فإن إبراهيم كان بعد عاد وثمود وقوم نوح ، وكان معاصراً للمؤتفكة عالماً بهلاكها .

ولكون هلاك هؤلاء معلوماً لم تقرن الجملة بضمير الفصل .

ووصف عاد ب { الأولى } على اعتبار عاد اسماً للقبيلة كما هو ظاهر . ومعنى كونها أولى لأنها أول العرب ذكراً وهم أول العرب البائدة وهم أول أمة أهلكت بعد قوم نوح .

وأما القول بأن عاداً هذه لما هلكت خلفتها أمة أخرى تُعرف بعاد إرم أو عاد الثانية كانت في زمن العماليق فليس بصحيح .

ويجوز أن يكون { الأولى } وصفاً كاشفاً ، أي عاداً السابقة . وقيل { الأولى } صفة عظمة ، أي الأولى في مراتب الأمم قوة وسعة ، وتقدم التعريف بعاد في سورة الأعراف .

وتقدم ذكر ثمود في سورة الأعراف أيضاً .

وتقدم ذكر نوح وقومه في سورة آل عمران وفي سورة الأعراف .

وإنما قدم في الآية ذكر عاد وثمود على ذكر قوم نوح مع أن هؤلاء أسبق لأن عاداً وثموداً أشهر في العرب وأكثر ذكراً بينهم وديارهم في بلاد العرب .

وقرأ الجمهور { عاداً الأولى } بإظهار تنوين { عاداً } وتحقيق همزة { الأولى } . وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو { عاد لُولى } بحذف همزة { الأولى } بعد نقل حركتها إلى اللام المعرِّفة وإدغام نون التنوين من { عاداً } في لاَم { لُولى } . وقرأه قالون عن نافع بإسكان همزة { الأولى } بعد نقل حركتها إلى اللام المعرِفة { عاد لُؤْلى } على لغة من يبدل الواو الناشئة عن إشباع الضمة همزاً ، كما قرىء { فاستوى على سؤقه } [ الفتح : 29 ] .