اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنَّهُۥٓ أَهۡلَكَ عَادًا ٱلۡأُولَىٰ} (50)

قوله : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى } اعلم أن هذه الآية الكريمة من أشكل الآيات نقلاً وتوجيهاً .

قال شهاب الدين ( رحمه الله ) {[53762]} : وَقَد يَسَّرَ الله تعالى تحرير ذلك بحَوْله وقوّته فأقول : إن القراء اختلفوا في ذلك على أربع رتب :

إِحْدَاها : قرأ ابن كثير وابنُ عامر والكوفيون «عَادٍ الأُولَى » بالتنوين مكسوراً وسكون اللام وتحقيق الهمزة بعدها . هذا كله في الوصل ، فإِذا وقفوا على «عَادٍ » ابتدأوا ب «الأولى » فقياسهم أن يقولوا الأولى بهمزة الوصل وسكون اللام وتحقيق الهمزة{[53763]} .

الثانية : قرأ قالون : عَاداً لُّؤْلَى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وهمز الواو{[53764]} هذا في الوصل ، وأما في الابتداء ب «الأولى » فله ثلاثة أوجه :

الأول : الُؤْلَى - بهزة وصل ثم بلام مضمومة ثم بهمزة ساكنة .

الثاني : لُؤْلَى - بلام مضمومة ، ثم بهمزة ساكنة .

الثالث : كابتداء ابن كثير ومن معه{[53765]} .

الثالثة : قرأ ورشٌ عاداً لُّولى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إليها كقالون ، إلا أنه أبقى الواو على حالها غير مبدلةٍ{[53766]} همزةً . هذا ( كله ) في الوصل وأما في الابتداء فله وجهان الُؤْلَى بالهمزة والنقل ، ولُولَى بالنقل دون همزة وصل . والواو ساكنة على حالها في هذين الوجهين .

الرابعة : قرأ أبو عمرو كورشٍ وصلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ إلاّ أنه يزيد عليه في الابتداء بوجه ثالث وهو وجه ابن كثير وَمَنْ مَعَهُ{[53767]} .

فقد تحصل أن لكل من قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ وأن لورشٍ وَجْهَيْنِ ؛ فتأمل ذلك ، فإنَّ تحريره ضعيفُ المأخذ من كتب القراءات{[53768]} .

وأما توجيهها فيتوقف على معرفة ثلاثة أصول :

الأول : حكم التنوين إذا وقع بعده ساكن .

الثاني : حكم حركة النقل .

الثالث : أصل «أولى » ما هو .

أما الأول فحكم التنوين الملاقي أن يكسر لالتقاء الساكنين نحو : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٍ اللَّهُ } [ الإخلاص : 1 - 2 ] أو يحذف تشبيهاً بحرف العلة كقراءة : { أَحدُ اللَّهُ الصَّمَدُ } وكَقَوْلِهِ :

وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ{[53769]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهو قليل جداً . وقد مضى تحقيقه .

وأما الثاني : فإن للعرب في الحركة المنقولة مذهبين الاعتداد بالحركة ، وعدم الاعتداد بها وهي اللغة الغالبة .

وأما الثالث : فأُولَى تأنيث «أَوَّل » . وقد تقدم الخلاف في أصله في : «أَوَّل » فليُلْتَفَتْ إليه{[53770]} .

إذا تقررت هذه الأصول الثلاثة فأقول :

أما قراءة ابن كثير ومن معه فإنهم صرفوا «عاداً » إمّا لأنه اسم للحيّ أو الأب فليس فيه ما يمنعه ، وإمَّا لأنه وإن كان مؤنثاً اسماً للقبيلة أو الأم إلا أنه مثل هنْد{[53771]} ودَعْد ، فيجوز فيه الصرف وعدمه فيكون كقوله :

لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزرِهَا *** دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ فِي العُلَبِ{[53772]}

فصرفها أولاً ومنعها ثانياً .

ولم ينقلوا حركة الهمزة إلى لام التعريف فالتقى ساكنان فكسروا التنوينَ لالتقائهما على ما هو المعروف من اللّغتين . وحذفوا همزة الوصل من الأولى للاستغناء عنها بحركة التنوين وصلاً ، فإذا ابتدأوا بها احتاجوا إلى همزة الوصل فأتوا بها ، فقالوا «الاولى » كنظيرها من همزات الوصل ، وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الْغَفيرُ .

وأما قراءة من أدغم التنوين في لام التعريف - وهما نافع وأبو عمرو - مع اختلافهما في أشياء كما تقدم فوجهه الاعتدادُ بحركة النقل ، وذلك أن من العرب من إذا نقل حركة الهمزة إلى ساكن قبلها كَلاَم التعريف عَامَلَها مُعَامَلَتَها ساكنةً ، ولا يعتدُّ بحركة النقل فيكسر الساكن الواقع قبلها ، ولا يُدْغِم فيها التنوين ويأتي قبلها بهمزة الوصل فيقول : لَمْ يَذْهَب الْحَمَرُ ، ورأيت زياداً الْعَجَمَ من غير إدغام التنوين ، والحمر والعجم بهمزة الوصل ؛ لأن اللام في حكم السكون ، وهذه هي اللغة المشهورة . ومنهم من يعتدّ بها فلا يكسر الساكن الأول ولا يأتي بهمزة الوصل ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقول : لم يذهبْ لحمرُ - بسكون الباء - «ولحمر ولعجم » من غير همز ، وزياد لَّعْجعم بتشديد اللام وعلى هذه اللغة جاءت هذه القراءةُ .

هذا من حيث الإجمال وأما من حيث التفصيل فأقول :

أما قالونُ فإنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإن لم يكن من أصله النقل لأجل قصده التخفيف بالإدْغَام ولما نقل الحركة اعتدَّ بها ؛ إذ لا يمكن الإدغام في ساكن ولا ما هو في حكمه .

وأما همزة الواو ففيها وجهان منقولان :

أحدهما : أن يكون «أولى » أصلها عنده وُؤْلَى من وَأَلَ أي نَجَا كما هو قول الكوفيين ، ثم أبدل الواو الأولى همزة ، لأنها واو مضمومة وقد تقدم أنها لغة مُطَّرِدَة . فاجتمع همزتان ثانيهما ساكنة فوجب قلبها واواً نحو : أومِنُ ، فلما حذفت الهمزة الأولى بسبب نقل حركتها رجعت الثانية إلى أصلها من الهمز ؛ لأنها إنما قلبت واواً من أجل الأولى وقد زالت . وهذا تكلف لا دليل عليه .

والثاني : أنه لما نقل الحركة إلى اللام صارت الضّمة قبل الواو كأنها عليهما ؛ لأن حركة الحرف بين يديه فأبدل الواو همزة كقوله :

أَحَبُّ المُؤقِدَيْنِ إلَيَّ مُؤْسَى{[53773]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكقراءة «يُؤقِنُونَ »{[53774]} وهمزة { السُّؤْقِ } [ ص : 33 ] و{ سُؤْقِهِ } [ الفتح : 29 ] كما تقدم تحريره . وهذا بناء منه على الاعتداد بالحركة أيضاً . وليس في هذا الوجه دليلٌ على أصل «أولى » عنده ما هو فيحتمل الخلاف المذكور جميعه .

وأما ابتداؤه الكلمة من غير نَقْل{[53775]} ، فإنه الأصل ، ولأنه إنما ثقل في الوصل لقصده التخفيف بالإدغام ولا إدغام في الابتداء فلا حاجة إلى النقل ، ولأنه إنما ثقل في الوصل وأما الابتداء{[53776]} بالنقل{[53777]} فلأنه محمول على الوصل ليجري اللفظ فيهما على سَنَنٍ واحد .

وعلة إثبات ألف الوصل مع النقل في أحدِ وَجْهَيْنِ :

ترك الاعتداد بحركة اللام على ما هي عليه القراءة في نظائره مما وجد فيه النقل ؛ إذ الغرض إنما هو جَرْي اللفظ في الابتداء والوصل على سَنَنٍ واحد وذلك يحصل بمجرد النقل وإن اختلفا في تقدير الاعتداد بالحركة وتركه . وعلة ترك الإتيان بألف في الوجه الثاني حمل الابتداء على الوصل في النقل والاعتداد بالحركة جميعاً ويقوِّي هذا الوجه رسمُ ( الأولى ) في هذا الموضع بغير ألف . والكلام في همز الواو مع النقل في الابتداء كالكلام عليه في الوصل كما تقدم .

وأما ورش فإن أصله أن ينقل حركة الهمزة على اللام في الوصل فنقل على أصله إلا أنه اعتد بالحركة ليصح ما قصده من التخفيف بالإدغام وليس من أصله الاعتداد بالحركة في نحو ذلك ، ألا ترى أنه يحذف الألف في ( سِيرَتِهَا الأولَى ){[53778]} [ و ] { وَيَتَجنُبهَا الأَشْقَى }{[53779]} ولو اعتد بالحركة لم يحْذِفْهَا .

وأما ما جاز عنه في بعض الروايات : { قالوا لاَنَ جِئْتَ } [ البقرة : 71 ] ؛ فإنه وجه نادرٌ ومُعَلَّل باتِّباع الأثر والجمع بين اللغتين والابتداء له بالنقل على أصله في ذلك أيضاً والابتداء له بألف الوصل على ترك الاعتداد بالحركة إذْ لا حاجةَ إلى قصد ذلك في الابتداء وترك الإتيان له بالألف على الاعتداد له بالحركة حملاً للابتداء على الوصل وموافقة الرسم أيضاً ولا يبتدأ له بالأصل ؛ إذ ليس من أصله ذلك ، و«الأولى » في قراءته تحتمل الخلاف المذكور في أصلها .

وأما قراءة أبي عمرو فالعلة له في قوله في الوصل والابتداء كالعلة المتقدمة لقالونَ ، إلا أنه يخالفه في همز الواو ؛ لأنه لم يعطِها حكم ما جاورها ، فليست عنده من «وَأَلَ » بل من غير هذا الوجه كما تقدم الخلاف في أول هذا الكتاب ، ويجوز أن يكون أصلها عنده من «وَأَلَ » أيضاً ، إلا أنه أبدل في حال النقل مبالغةً في التخفيف أو موافقة لحال ترك النقل .

وقد عاب هذه القراءة - أعني قراءةَ الإدْغَام - أبو عثمانَ وأبو العباس ذهاباً منهما إلى أن اللغة الفصيحة عدم الاعتداد بالعارض ، ولكن لا التفات إلى ردِّها لثُبُوت ذلك لغةً وقراءةً وإن كان غيرها أفصح منها وقد ثبت عن العرب أنهم يقولون الَحْمَرَ ولَحْمَر بهمزة الوصل وعدمها مع النقل والله أعلم{[53780]} .

وقرأ أبيّ - وهِيَ في حَرْفِهِ - «عَادَ الأُولى » غير مصروف ذهاباً به إلى القبيلة أو الأم كما تقدم ؛ ففيه العلمية والتأنيث{[53781]} ، ويدل على التأنيث قوله «الأُولى » فوصفها بوصف المؤنث .

فصل{[53782]}

عاد الأولى هم قوم هود أهلكوا بريح صَرْصَر ، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى . قال القرطبي : سماها الأولى ، لأنهم كانوا قبل ثمود . وقيل : إنّ ثمود من قبل عاد . وقال ابن زيد : قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح - عليه الصلاة والسلام - . وقال ابن إسحاق{[53783]} : هما عَادانِ ، فالأولى أهلكت بالريح الصرصر ، ثم كانت الآخرة وأهلكت بصيحة . وقيل : عاد الأولى هي عاد بن إرَم بن عوص بن سام بن نوح وعاد الثانية من ولد عاد الأولى ، والمعنى متقارب . وقيل : إن عاداً الآخرة هم الجبَّارون . وهم قوم هود{[53784]} .


[53762]:زيادة من أ. وانظر رأيه في تلك القراءة في الدر المصون مخطوط بلدية إسكندرية تحت رقم 118.
[53763]:ذكر هذه القراءة ابن مجاهد في السبعة وصاحب الإتحاف 404 ونسب أبو حيان هذه القراءة إلى الجمهور. انظر البحر 8/169 وكذلك مكّي في المشكل 2/296.
[53764]:قال في الإتحاف: واختلف عن قالون في طريقته في همز الواو، غير أن الهمز أشهر عن الحلواني وعدمه أشهر عن أبي نشيط.
[53765]:قال في الإتحاف: ويجوز لغير ورش وجه ثالث وهو الابتداء بالأصل فتأتي بهمزة الوصل مع تسكين اللام وتخفيف الهمزة المضمومة بعدها الواو. وقال في الكشف 2/296: غير أن قالون يأتي بهمزة ساكنة بعد اللام في موضع الواو. وانظر الإتحاف 404.
[53766]:الإتحاف المرجع السابق وهي ليست سبعية كسابقتها بخلاف الأولى والرابعة الآتية بعد.
[53767]:السبعة والإتحاف السابقين والكشف 2/296.
[53768]:وانظر هذا في المشكل والإتحاف والسبعة والبحر والكشاف 4/34 والقرطبي 17/120.
[53769]:مضى الكلام عليه أكثر من مرة.
[53770]:أصل أولى عند الكوفة وُؤلى ثم وُولَى ثم أُولَى. وعليه قراءة قالون السابقة بالهمزة عند نقل حركة الهمزة –الهمزة الأولى- إلى لام التعريف. وردّ المازني على الخليل بأن الواو في مثله عارضة غير لازمة؛ إذ تخفيف الهمزة في مثله غير واجب. وأصل أولى عند البصرة "وُولى" ويجب قلب الأولى همزة لأن الثانية أصلية غير منقلبة عن شيء وسواء كانت الثانية تلك مدة أو غير مدة كالأول عندهم. وانظر شرح الشافية للعلامة الرضي 3/76 و77.
[53771]:فهو مؤنث ثلاثي ساكن الوسط عربي الأصل.
[53772]:وقد نسبه صاحب اللسان إلى جرير، كما نُسب إلى ابن قيس الرُّقيّات، وروى ابن جني في الخصائص "تغذ" بدل "تسق". والشاهد في (دعد) حيث صرفها أولا ومنعها ثانيا قال في الخصائص: كذا الرواية بصرف (دَعْدٍ) الأولى، ولو لم يصرفها لما كسر وزنا وأمن الضرورة أو ضعف إحدى اللغتين. وقد تقدم.
[53773]:سبق هذا البيت أيضا.
[53774]:وهي قراءة أبي حية النمري كما ذكر ذلك صاحب الكشاف 1/138.
[53775]:كابن كثير ومن معه.
[53776]:أي قالون.
[53777]:بهمزة الوصل وبدونها. أي الُؤْلى، ولُؤْلَى.
[53778]:فتكتب عنده (سيرتها لُولَى) من الآية 21 من (طه) عليه السلام.
[53779]:تكتب هكذا (يتجنبها لَشْقَى) وهي الآية 11 من الأعلى.
[53780]:وانظر في هذه التوجيهات مشكل الإعراب 2/334 والكشف "وكلاهما لمكي" 2/296 وباب المد وعلله له أيضا. ويقصد المؤلف بأبي عثمان المازنيّ، وأبي العباس المبرد. وانظر البحر أيضا 8/169. وانظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 5/77.
[53781]:لم أجدها إلا في البحر لأبي حيان فهي من الشواذ. وانظر المرجع السابق.
[53782]:في ب قوله بدل فصل.
[53783]:تقدم التعريف به.
[53784]:القرطبي 17/120.