الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَأَنَّهُۥٓ أَهۡلَكَ عَادًا ٱلۡأُولَىٰ} (50)

قوله : { عَاداً الأُولَى } : اعلَمْ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ مِنْ أشكلِ الآياتِ نَقْلاً وتوجيهاً ، وقد يَسَّر اللَّهُ تعالى تحريرَ ذلك كلِّه بحولِه وقوتِه فأقول : إنَّ القرَّاءَ اختلفوا في ذلك على أربعِ رُتَبٍ ، إحداها : قرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون " عادَاً الأُولى " بالتنوين مكسوراً وسكونِ اللام وتحقيقِ الهمزةِ بعدها ، هذا كلُّه في الوصلِ فإذا وقفوا على " عاداً " وابتدؤوا ب " الأُوْلى " فقياسُهم أَنْ يقولوا " الأولى " بهمزةِ الوصلِ وسكونِ اللامِ وتحقيقِ الهمزة .

الثانيةُ : قرأ قالون " عاداً لُّؤْلَى " بإدغامِ التنوين في اللامِ ، ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى لام التعريفِ ، وهمزِ الواوِ ، هذا في الوصل . وأمَّا في الابتداءِ بالأولى فله ثلاثةُ أوجهٍ ، الأولُ : " الُّؤْلَى " بهمزةِ وصل ، ثم بلامٍ مضمومة ، ثم بهمزةٍ ساكنة . الثاني : " لُؤْلَى " بلامٍ مضمومةٍ ثم بهمزةٍ ساكنةٍ . الثالث : كابتداءِ ابنِ كثير ومَنْ معه .

الثالثة : قرأ ورش " عاداً لُّوْلى " بإدغامِ التنوين في اللام ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إليها كقالون ، إلاَّ أنه أبقى الواوَ على حالِها غيرَ مبدلةٍ همزةً هذا في الوصل . وأمَّا في الابتداءِ بها فله وجهان : " ألُّوْلَى " بالهمزةِ والنقلِ ، و " لُوْلَى " بالنقلِ دونَ همزِ وصلٍ ، والواوُ ساكنةٌ على حالِها في هذَيْن الوجهَيْن .

الرابعة : قرأ أبو عمروٍ كوَرْشٍ وَصْلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ ، إلاَّ أنه يزيدُ عليه في الابتداءِ بوجهٍ ثالثٍ ، وهو وجهُ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه ، فقد تحصَّل أنَّ لكلّ مِنْ قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ ، وأنَّ لورشٍ وجهين . فتأمَّلْ ذلك فإنَّ تحريرَه صعبُ المأخذِ من كتب القراءات هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات .

وأمَّا توجيهُها فيُوقف على معرفةِ ثلاثةِ أصولٍ ، الأول : حكمُ التنوينِ إذا وقع بعدَه ساكنٌ . الثاني : حكمُ حركةِ النقلِ . الثالث : أصلُ " أُوْلَى " ما هو ؟ إمَّا الأولُ فحكمُ التنوينِ الملاقي أنْ يُكْسَرَ لالتقاءِ الساكنين نحو : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ الإِخلاص : 1 ] أو يُحْذَفَ تشبيهاً بحرفِ العلةِ كقراءةِ { أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } ، وكقولِ الشاعر :

4140 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً

وهو قليلٌ جداً ، وقد مضى تحقيقُه . وأمَّا الثاني فإنَّ للعرب في الحركة المنقولةِ مذهبين : الاعتدادَ بالحركةِ ، وعدمَ الاعتدادِ بها ، وهي اللغةُ العالية . وأمَّا الثالثُ فأُوْلَى تأنيثُ أَوَّل ، وقد تقدَّم الخلافُ في أصلِه مستوفى في أولِ هذا التصنيفِ فعليك باعتبارِه . إذا تقرَّرَتْ هذه الأصولُ الثلاثةُ فأقولُ :

أمَّا قراءةُ ابنِ كثير ومَنْ معه فإنهم صرفوا " عاداً " : إمَّا لأنه اسمٌ للحيِّ أو الأبِ فليس فيه ما يمنعُه ، وإمَّا لأنَّه كان مؤنثاً اسماً للقبيلةِ أو الأمِّ ، إلاَّ أنَّه مثلُ هِنْد ودَعْد فيجوزُ فيه الصرفُ وعدمُه فيكونُ كقوله :

لم تَتَلَفَّعْ بفَضْلِ مِئْزَرِها *** دَعْدٌ ولم تُسْقَ دعدُ في العُلَب

فصرفَها أولاً ومَنَعَها ثانياً ، ولَم يَنْقُلوا حركةَ الهمزةِ إلى لام التعريف فالتقى ساكنان ، فكسروا التنوينَ لالتقائِهما على ما هو المعروفُ من اللغتين وحذفوا همزةَ الوصلِ من " الأُوْلى " للاستغناءِ عنها بحركة التنوين وَصْلاً فإذا ابتدَؤوا بها احتاجُوا إلى همزة الوصل فأَتَوْا بها فقالوا : الأُوْلى كنظيرِهان هَمَزاتِ الوصلِ . وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الغَفيرُ .

وأمَّا قراءة مَنْ أدغم التنوينَ في لامِ التعريفِ وهما نافعٌ وأبو عمرو مع اختلافِهما في أشياءَ كما تقدَّم بيانُه فوجْهُه الاعتدادُ بحركةِ النقل ؛ وذلك أنَّ مِنَ العربِ مَنْ إذا نَقَل حركة الهمزةِ إلى ساكنٍ قبلَها كلامِ التعريفِ عامَلَها معاملَتَها ساكنةً ، ولا يَعْتَدُّ بحركةِ النقلِ ، فيكسرُ الساكَنَ الواقعَ قبلَها ، ولا يُدْغِم فيها التنوينَ ، ويأتي قبلها بهمزةِ الوصلِ فيقول : لم يَذْهَبِ لَحْمَرُ ، ورأيت زياداً لَعْجَم ، من غيرِ إدغام التنوينِ ، والَحْمَرُ والَعْجَمُ بهمزة الوصلِ لأن اللامَ في حكمِ السكونِ ، وهذه هي اللغةُ المشهورة . ومنهم مَنْ يَعْتَدُّ بها ، فلا يكسِر الساكنَ الأولَ ، ولا يأتي بهمزةِ الوصلِ ، ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقولُ : لم يَذْهَبْ لَحْمر بسكون الباء ، ولَحْمَرُ ولَعْجَمُ من غيرِ همزٍ ، وزيادُ لّعجم بتشديدِ اللامِ ، وعلى هذه اللغةِ جاءَتْ هذه القراءةُ ، هذا من حيث الإِجمال .

وأمَّا من حيث التفصيلُ فأقول : أمَّا قالون فإنه نَقَلَ حركة الهمزةِ إلى لام التعريف ، وإنْ لم يكنْ من أصلِه النقلُ لأجل قَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام ، ولَمَّا نقل الحركةَ اعْتَدَّ بها ، إذ لا يمكن الإِدغامُ في ساكنٍ ولا ما هو في حُكْمِه .

وأمَّا همزُه الواوُ ففيه وجهان منقولان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ أُوْلى أصلُها عنده وُؤْلَى مِنْ وَأَل أي : نجا ، كما هو قولُ الكوفيين ، ثم أَبْدَلَ الواوَ همزةً لأنها واوٌ مضمومةٌ ، وقد تقدَّم لك أنها لغةٌ مطردةٌ ، فاجتمع همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ فَوَجَبَ قلبُها واواً نحو : " أُوْمِنُ " ، فلمَّا حُذِفَتْ الهمزةُ الأولى بسببِ نَقْلِ حركتِها رَجَعَتْ الثانيةُ إلى أصلِها من الهمزةِ لأنَّها إنما قُلِبت واواً من أجلِ الأُولى ، وقد زالَتْ ، وهذا كما رأيتَ تكلُّفٌ لا دليلَ عليه . والثاني : أنَّه لَمَّا نَقَلَ الحركةَ إلى اللامِ صارَت الضمةُ قبل الواوِ كأنَّها عليها ، لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه ، فأبدل الواوَ همزةً كقولِه :

أَحَبُّ المُؤْقِدِيْنَ إليَّ موسى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكقراءةِ " يُؤْقنون " وهمزِ " السُّؤْقِ " و " سُؤْقِه " وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، وهذا بناءً منه على الاعتدادِ بالحركةِ أيضاً . وليس في هذا الوجهِ دليلٌ على أصلِ " أُوْلى " عنده ما هو ؟ فيُحتمل الخلافُ المذكورُ جميعُه . وأمَّا ابتداؤُه الكلمةَ من غير نَقْلٍ فإنه الأصلُ ، ولأنه إنما نَقَلَ في الوصلِ لقَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام ، ولا إدغامَ في الابتداءِ فلا حاجةَ إلى النقلِ . وأمَّا الابتداءُ له بالنقلِ فلأنه محمولٌ على الوصل ليجريَ اللفظُ فيهما على سَنَنٍ واحدٍ .

وعلةُ إثباتِ ألفِ الوصلِ مع النقلِ في أحدِ الوجهَينِ : تَرْكُ الاعتدادِ بحركةِ اللامِ على ما عليه القراءةُ في نظائرِه ممَّا وُجِدَ فيه النقلُ ؛ إذ الغَرَضُ إنما هو جَرْيُ اللفظِ في الابتداءِ والوصلِ على سَنَنٍ واحدٍ ، وذلك يَحْصُل بمجرد النقلِ وإنْ اختلفا في تقديرِ الاعتدادِ بالحركةِ وتركِه . وعلةُ تَرْكِ الإِتيانِ بالألفِ في الوجهِ الثاني حَمْلُ الابتداءِ على الوصلِ في النقلِ والاعتدادِ بالحركةِ جميعاً . ويُقَوِّي هذا الوجهَ رسمُ " الأولى " في هذا الموضع بغيرِ ألفٍ . والكلامُ في همز الواوِ مع النقل في الابتداءِ كالكلامِ عليه في الوَصْل كما تقدَّم .

وأمَّا ورشٌ فإنَّ أصلَه أن ينقلَ حركةَ الهمزةِ على اللام في الوصلِ فنقل على أصلِه ، إلاَّ أنه اعتدَّ بالحركةِ ليصِحَّ ما قَصَدَه في التخفيفِ بالإِدغامِ ، وليس من أصله الاعتدادُ بالحركة في نحو ذلك . ألا ترى أنه يَحْذِفُ الألفَ في { سِيَرتَهَا الأُولَى } [ طه : 21 ] و { وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى } [ الأعلى : 11 ] ولو اعْتَدَّ بالحركةِ لم يَحْذِفْها . وأمَّا ما جاء عنه في بعضِ الرواياتِ : { قَالُواْ لآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } [ البقرة : 71 ] فإنه وجهٌ نادرٌ مُعَلَّلٌ باتِّباعِ الأثرِ والجَمْعِ بين اللغتين . والابتداءُ له بالنَّقْلِ على أصلِه في ذلك أيضاً ، والابتداءُ له بألفِ الوصلِ على تَرْكِ الاعتدادِ بالحركةٍِ ، إذْ لا حاجةَ إلى قَصْد ذلك في/ الابتداءِ ، وتَرْكِ الإِتْيانِ له بالألف على الاعتدادِ له بالحركة حَمْلاً للابتداءِ على الوصل وموافقةَ الرسمِ أيضاً ، لا يُبْتَدأ له بالأصل ، إذ ليس مِنْ أصلِه ذلك ، و " الأُوْلَى " في قراءتِه تَحْتَمل الخلافَ المذكورَ في أصلِها .

وأمَّا أبو عمروٍ فالعلةُ له في قراءتِه في الوصلِ والابتداءِ كالعلةِ المتقدمةِ لقالون ، إلاَّ أنَّه يُخالفه في همزِ الواو لأنه لم يُعْطِها حكمَ ما جاوَرَها ، وليسَتْ عنده مِنْ وَأل بل مِنْ غيرِ هذا الوجهِ ، كما تقدَّم لكَ الخلافُ فيه أولَ هذا الموضوع ، ويجوز أَنْ يكونَ أصلُها عندَه مِنْ وَأَل أيضاً إلاَّ أنه أَبْدَلَ في حالِ النقلِ مبالغةً في التخفيف ، أو موافَقَةً لحالِ تَرْكِ النَّقلِ ، وقد عاب هذه القراءةَ أعني قراءةَ الإِدغامِ أبو عثمانَ ، وأبو العباس ، ذهاباً منهما إلى أنَّ اللغةَ الفَصيحة عدمُ الاعتدادِ بالعارِضِ ، ولكن لا التفاتَ إلى رَدِّهما لثبوتِ ذلك لغةً وقراءةً ، وإن كان غيرُها أَفْصَحَ منها . وقد ثَبَتَ عن العرب أنَّهم يقولون : الَحْمَر ولَحْمَر بهمزةِ الوصلِ وعَدَمِها مع النقل ، واللَّهُ أعلمُ .

وقرأ أُبَيٌّ وهي في حَرْفِه " عادَ الأُولى " ، غيرَ مصروفٍ ذهاباً إلى القبيلةِ أو الأمِّ كما تقدَّم ، ففيه العلَمِيَّةُ والتأنيثُ ، ويَدُلُّ على التأنيثِ قولُه : " الأُوْلَى " فوصَفَها بوَصْفِ المؤنث .