معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِن يُوحَىٰٓ إِلَيَّ إِلَّآ أَنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ} (70)

قوله تعالى : { إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين } قال الفراء : إن شئت جعلت ( ( أنما ) ) في موضع رفع ، أي : ما يوحى إلي إلا الإنذار ، وإن شئت جعلت المعنى : ما يوحى إلي إلا أني نذير مبين . وقرأ أبو جعفر : ( ( إنما ) ) بكسر الألف ، لأن الوحي قول .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، قال : مر بنا خالد بن الحلاج ، فدعاه مكحول فقال : يا أبا إبراهيم حدثنا حديث عبد الرحمن بن عائش : قال : سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرمي يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رأيت ربي في أحسن صورة ، فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد ؟ قلت : أنت أعلم أي رب ، مرتين ، قال : فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت ما في السماء والأرض ، قال : ثم تلا هذه الآية { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين } ثم قال : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد ؟ قلت : في الكفارات ؟ قال : وما هن ؟ قلت : المشي على الأقدام إلى الجماعات ، والجلوس في المساجد خلف الصلوات ، وإبلاغ الوضوء أماكنه في المكاره ، قال : ومن يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ، ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه ، ومن الدرجات إطعام الطعام ، وبذل السلام ، وأن يقوم الليل والناس نيام ، قال : قل اللهم إني أسألك الطيبات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لي ، وترحمني ، وتتب علي ، وإذا أردت فتنةً في قوم فتوفني غير مفتون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعلموهن فوالذي نفسي بيده إنهن لحق } .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِن يُوحَىٰٓ إِلَيَّ إِلَّآ أَنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ} (70)

{ إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين } أي لأنما كأنه لما جوز أن الوحي يأتيه بين بذلك ما هو المقصود به تحقيقا لقوله { إنما أنا منذر } ويجوز أن يرتفع بإسناد يوحى إليه ، وقرئ " إنما " بالكسر على الحكاية .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِن يُوحَىٰٓ إِلَيَّ إِلَّآ أَنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ} (70)

جملة { إن يوحى إليَّ إلاَّ أنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ } مبيّنة لجملة { ما كانَ لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون } ، أي ما علمتُ بذلك النبأ إلا بوحي من الله وإنما أوحَى الله إليّ ذلك لأكون نذيراً مبيناً .

وقد رُكّبت هذه الجملة من طريقين للقصر : أحدهما طريق النفي والاستثناء ، والآخر طريق { أَنما } المفتوحة الهمزة وهي أخت ( إنما ) المكسورة الهمزة في معانيها التي منها إفادة الحصر ، ولا التفات إلى قول من نفوا إفادتها الحصر فإنها مركبة من ( أنّ ) المفتوحة الهمزة و ( ما ) الكافّة وليست ( أنّ ) المفتوحة الهمزة إلا ( إِن ) المكسورة تُغَيَّر كسرة همزتها إلى فتحة لتفيد معنىً مصدرياً مشرباً ب ( أَنْ ) المصدرية إشراباً بديعاً جعل شعاره فتح همزتها لتشابه ( أَنْ ) المصدرية في فتح الهمزة وتشابه ( أَنَّ ) في تشديد النون ، وهذا من دقيق الوضع في اللغة العربية . وتكون { أَنما } مفتوحةَ الهمزة إذا جعلت معمولة لعامل في الكلام . والذي يقتضيه مقام الكلام هنا أن فتح همزة { أَنما } لأجل لام تعليل مقدرة مجرور بها { أنما } . والتقدير : إلاّ لأَنما أنا نذير ، أي إلا لعلّة الإِنذار ، أي ما أوحي إلي نبأ الملأ الأعلى إلا لأنذركم به ، أي ليس لمجرد القصص .

فالاستثناء من علل ، وقد نُزِّل فعل { يوحى } منزلة اللازم ، أي ما يوحى إلي وحيٌ فلا يقدّر له مفعول لقلة جدواه وإيثار جدوى تعليل الوحي .

وبهذا التقدير تكمل المناسبة بين موقع هذه الجملة وموقع جملة { ما كانَ لي مِن علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون } المبيّنة بها جملةُ { قُل هُوَ نبؤا عظيم أنتم عنه مُعرضون } ، إذ لا مناسبة لو جعل { أنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ } مستثنى من نائب فاعل الوحي بأن يقدر : إن يوحى إليّ شيء إلا أنما أنا نذير مبين ، أي ما يوحى إليّ شيء إلا كوني نذيراً ، وإن كان ذلك التقدير قد يسبق إلى الوهم لكنه بالتأمل يتّضح رجحان تقدير العلة عليه .

فأفادت جملة { إن يوحى إليَّ أنَّما أنا نذيرٌ مبينٌ } حصر حكمة ما يأتيه من الوحي في حصول الإِنذار وحصر صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة النذارة ، ويستلزم هذان الحصران حصراً ثالثاً ، وهو أن إخبار القرآن وحي من الله وليست أساطير الأولين كما زعموا . فحصل في هذه الجملة ثلاثة حصور : اثنان منها بصريح اللفظ ، والثالث بكناية الكلام ، وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى : { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } [ القصص : 46 ] . وهذه الحصور : اثنان منها إضافيان ، وهما قصر ما يوحى إليه على علة النذارة وقصر الرسول صلى الله عليه وسلم على صفة النذارة ، وكلاهما قلب لاعتقادهم أنهم يسمعون القرآن ليتخذوه لعباً واعتقادهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ساحر أو مجنون . وعلم من هذا أن ذكر نبأ خلق آدم قصد به الإِنذار من كيد الشيطان . وقرأ أبو جعفر { إلاَّ إنَّما } بكسر همزة { إنما } على تقدير القول ، أي ما يوحى إلا هذا الكلام .