قوله عز وجل : { يا يحيى } ، قيل : فيه حذف معناه : ووهبنا له يحيى وقلنا له : يا يحيى ، { خذ الكتاب } ، يعني التوراة ، { بقوة } ، بجد ، { وآتيناه الحكم } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : النبوة ، { صبياً } ، وهو ابن ثلاث سنين . وقيل : أراد بالحكم فهم الكتاب ، فقرأ التوراة وهو صغير . وعن بعض السلف : من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو ممن أوتي الحكم صبياً .
وهذا أيضا تضمن{[18699]} محذوفًا ، تقديره : أنه وجد هذا الغلام المبشر به ، وهو يحيى ، عليه السلام ، وأن الله علمه الكتاب ، وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم ، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار . وقد كان سنه إذ ذاك صغيرًا ، فلهذا نوه بذكره ، وبما أنعم به عليه وعلى والديه ، فقال : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } أي : تعلم الكتاب { بِقُوَّةٍ } أي : بجد وحرص واجتهاد { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } أي : الفهم والعلم والجد والعزم ، والإقبال على الخير ، والإكباب عليه ، والاجتهاد فيه وهو صغير حديث [ السن ]{[18700]} .
قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب . قال : ما للعب خلقت{[18701]} ، قال : فلهذا أنزل الله : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } .
مقول قول محذوف ، بقرينة أن هذا الكلام خطاب ليحيى ، فلا محالة أنه صادر من قائل ، ولا يناسب إلاّ أن يكون قولاً من الله تعالى ، وهو انتقال من البشارة به إلى نبوءته . والأظهر أنّ هذا من إخبار القرآن للأمة لا من حكاية ما قيل لزكرياء . فهذا ابتداء ذكر فضائل يحيى .
وطوي ما بين ذلك لعدم تعلق الغرض به . والسياق يدلّ عليه . والتقدير : قلنا يا يحيى خذ الكتاب .
والكتاب : التوراة لا محالة ، إذ لم يكن ليحيى كتاب منزّل عليه .
والأخذ : مستعار للتفهم والتدبر ، كما يقال : أخذت العلم عن فلان ، لأنّ المعتني بالشيء يشبه الآخذ .
والقوة : المراد بها قوّة معنوية ، وهي العزيمة والثّبات .
والباء للملابسة ، أي أخذا ملابساً للثبات على الكتاب ، أي على العمل به وحَمْل الأمّة على اتباعه ، فقد أخذ الوهن يتطرق إلى الأمة اليهودية في العمل بدينها .
و { ءَاتيناه } عطف على جملة القول المحذوفة ، أي قلنا : يا يحيى خذ الكتاب وآتيناه الحكم .
والحُكم : اسم للحكمة . وقد تقدم معناها في قوله تعالى : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } في سورة البقرة ( 269 ) . والمراد بها النّبوءة ، كما تقدم في قوله تعالى : { ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً } في سورة يوسف ( 22 ) ، فيكون هذا خصوصية ليحيى أن أوتي النبوءة في حال صباه . وقيل : الحكم هو الحكمة والفهم .
و صَبِيّاً } حال من الضمير المنصوب في { وءاتيناه } . وهذا يقتضي أن الله أعطاه استقامة الفكر وإدراك الحقائق في حال الصبا على غير المعتاد ، كما أعطى نبيئه محمداً صلى الله عليه وسلم الاستقامة وإصابة الرأي في صباه . ويبعد أن يكون يحيى أُعطي النبوءة وهو صبي ، لأن النبوءة رتبة عظيمة فإنما تعطى عند بلوغ الأشُدّ . واتفق العلماء على أن يحيى أعطِي النبوءة قبل بلوغ الأربعين سنة بكثير . ولعل الله لما أراد أن يكون شهيداً في مقتبل عمره باكره بالنبوءة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا يحيى خذ الكتاب}، يعني: التوراة، {بقوة}، يعني: بجد ومواظبة عليه، {وءاتيناه الحكم صبيا}، يعني: وأعطينا يحيى العلم والفهم وهو ابن ثلاث سنين.
ابن العربي: روى ابن القاسم عن مالك، أنه سئل عن تفسير قوله تعالى: {وآتيناه الحكم صبيا} قال: المعرفة والعمل به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فولد لزكريا يحيى، فلما ولد، قال الله له: يا يحيى، خذ هذا الكتاب بقوّة، يعني كتاب الله الذي أنزله على موسى، وهو التوراة. بقوّة، يقول: بجدّ...
وقوله: وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيّا يقول تعالى ذكره: وأعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: خذ الكتاب بما قواك الله وأعانك. وقال بعضهم: خذ الكتاب، واصبر على العمل بما فيه...
قال أبو بكر الأصم: الجد: هو الانكماش في العمل، والقوة هي احتمال ما حمل عليه.
{وآتيناه الحكم صبيا} قال بعضهم: {وآتيناه الحكم} أي النبوة في حال صباه. وقال بعضهم: آتاه الله الفهم واللب. وقال بعضهم: الحكمة والعلم. فدل ذلك على أن الاختصاص منه يكون لمن كان إفضالا منه وإنعاما ورحمة لا باستحقاق من المختص له واستجابة. وفي قوله تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} دلالة أنه كان نبيا حين كان أخبر أنه آتاه الكتاب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي قلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة مِنَّا، خَصَصْنَاكَ بها... لا قوةَ يدٍ ولكن قوة قلبٍ، وذلك خيرٌ خَصَّه اللَّهُ تعالى به وهو النبوة... {وَءَاتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً} أي النبوة، بَعَثَه اللَّهُ بها إلى قومه، وأوحى إليه وهو صبيّ. ويقال الحُكْمُ بالصوابِ والحقِّ بين الناس. ويقال الحكم هو إحكام الفعل على وجه الأمر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي خذ التوراة بجد واستظهار بالتوفيق والتأييد، الحكم: الحكمة.
الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل لقوله تعالى: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة}. ويحتمل أن يكون كتابا خص الله به يحيى كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك، والأول أولى؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ولا معهود ههنا إلا التوراة. قوله: {بقوة} ليس المراد منه القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت النبوة لا يستضلع بأمرها ويقوى على حملها إلا عند استحكام العقل ببلوغ الأشد، وكان التطويق على أمرها قبل ذلك من العظمة بمكان، دل عليه النون في قوله: {وءاتيناه} بما لنا من العظمة {الحكم} أي النبوة والفهم للتوراة {صبياً} لغلبة الروح عليه، وهذه الخارقة لم تقتض الحكمة أن تكون لنبينا صلى الله عليه وسلم لأن قومه لا عهد لهم بالنبوة، فكانوا إذا كذبوا لا يكون لهم من أنفسهم ما يلزمهم من التناقض، فعُوّض أعظم من ذلك بغرائز الصدق التي أوجبت لهم تسميته بالأمين ليكونوا بذلك مكذبين لأنفسهم في تكذيبهم له. وبمزيد إبقاء معجزته القرآنيه بعده تدعو الناس إلى دينه دعاء لا مرد له
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
دل الكلام السابق على ولادة يحيى، وشبابه، وتربيته، فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة، أي: بجد واجتهاد، وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه، وفهم معانيه، والعمل بأوامره ونواهيه، هذا تمام أخذ الكتاب بقوة، فامتثل أمر ربه، وأقبل على الكتاب، فحفظه وفهمه، وجعل الله فيه من الذكاء والفطنة، ما لا يوجد في غيره ولهذا قال: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ْ} أي: معرفة أحكام الله والحكم بها، وهو في حال صغره وصباه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويترك السياق زكريا في صمته وتسبيحه، ويسدل عليه الستار في هذا المشهد ويطوي صفحته ليفتح الصفحة الجديدة على يحيى؛ يناديه ربه من الملأ الأعلى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة...). لقد ولد يحيى وترعرع وصار صبيا، في الفجوة التي تركها السياق بين المشهدين. على طريقة القرآن في عرضه الفني للقصص، ليبرز أهم الحلقات والمشاهد، وأشدها حيوية وحركة. وهو يبدأ بهذا النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة. لأن مشهد النداء مشهد رائع عظيم، يدل على مكانة يحيى، وعلى استجابة الله لزكريا، في أن يجعل له من ذريته وليا، يحسن الخلافة بعده في العقيدة وفي العشيرة. فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف انتدابه ليحمل الأمانة الكبرى. (يا يحيى خذ الكتاب بقوة).. والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى، وعليه كان يقوم أنبياؤهم يعلمون به ويحكمون. وقد ورث يحيى أباه زكريا، ونودي ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة.. وبعد النداء يكشف السياق عما زود به يحيى لينهض بالتبعة الكبرى: (وآتيناه الحكم صبيا، وحنانا من لدنا وزكاة، وكان تقيا).. فهذه هي المؤهلات التي زوده الله بها وأعده وأعانه على احتمال ما كلفه إياه عندما ناداه.. آتاه الحكمة صبيا، فكان فذا في زاده، كما كان فذا في اسمه وفي ميلاده. فالحكمة تأتي متأخرة. ولكن يحيى قد زود بها صبيا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مقول قول محذوف، بقرينة أن هذا الكلام خطاب ليحيى، فلا محالة أنه صادر من قائل، ولا يناسب إلاّ أن يكون قولاً من الله تعالى، وهو انتقال من البشارة به إلى نبوءته. والأظهر أنّ هذا من إخبار القرآن للأمة لا من حكاية ما قيل لزكرياء. فهذا ابتداء ذكر فضائل يحيى. وطوي ما بين ذلك لعدم تعلق الغرض به. والسياق يدلّ عليه. والتقدير: قلنا يا يحيى خذ الكتاب. والأخذ: مستعار للتفهم والتدبر، كما يقال: أخذت العلم عن فلان، لأنّ المعتني بالشيء يشبه الآخذ. والقوة: المراد بها قوّة معنوية، وهي العزيمة والثّبات. والباء للملابسة، أي أخذا ملابساً للثبات على الكتاب، أي على العمل به وحَمْل الأمّة على اتباعه، فقد أخذ الوهن يتطرق إلى الأمة اليهودية في العمل بدينها. و {ءَاتيناه} عطف على جملة القول المحذوفة، أي قلنا: يا يحيى خذ الكتاب وآتيناه الحكم. وهذا يقتضي أن الله أعطاه استقامة الفكر وإدراك الحقائق في حال الصبا على غير المعتاد، كما أعطى نبيئه محمداً صلى الله عليه وسلم الاستقامة وإصابة الرأي في صباه. ويبعد أن يكون يحيى أُعطي النبوءة وهو صبي، لأن النبوءة رتبة عظيمة فإنما تعطى عند بلوغ الأشُدّ. واتفق العلماء على أن يحيى أعطِي النبوءة قبل بلوغ الأربعين سنة بكثير. ولعل الله لما أراد أن يكون شهيداً في مقتبل عمره باكره بالنبوءة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد ذلك كان يحيى نبي الله، وقد صار شخصا سويا يخاطب وينادي بما أنعم الله به عليه وعلى أبيه فقال تعالى مخاطبا نبيه يحيى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا}. ناداه سبحانه بالبعيد إعلاء له وتشريفا، وناداه باسمه محبة له وتقريبا، وقد دل ذلك النداء على أنه بلغ حد الخطاب، ولذا تضمن معنى كبير وكمل، وعطف عليه بقوله: {وآتيناه الحكم صبيا}، فالواو عاطفة تحمل على ما تضمنه معنى {يا يحيى} من بلوغ الرشد، واستواء الشخصية الإنسانية وذلك أمر خارق للعادة فإن الصبي يشدو في الكمال حتى يبلغ مبلغ الرجال، فيخاطب كما يخاطب الرجال، ولكنه بلغ مبلغ الرجال، وهو مبلغ من يعطيه الله تعالى الحكم، ومعنى {بقوة}، أي خذه منفذا له بقوة لا تخشى فيه لومة لائم، ولا معذرة لأثيم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وبعد ميلاد يحيى ناداه ربه {يا يحيى خذ الكتاب بقوة}، ونوه كتاب الله بخصال يحيى وبروره بوالديه، ومقامه الكريم عند ربه، رغما عن كونه لا يزال صبيا دون البلوغ، فقال تعالى: {وآتيناه الحكم صبيا} أي الحكمة والفقه في الدين
... والقوة: هي الطاقة الفاعلة التي تدير دولاب الحياة حركة وسكونا، فقوله تعالى: {خذ الكتاب بقوة} لأن الكتاب فيه أوامر وفيه نواه، يأمر بالخير وينهاك عن الشر، فإن أمرك بالخير وأنت لا تفعله تحتاج إلى قوة دفع تدفعك إلى الخير، وكأنك كنت ساكنا تحتاج إلى قوة تحركك، وإن نهاك عن الشر وأنت تفعله فأنت في حاجه إلى قوة تمنعك وتوقف حركتك في الشر، والمنهج هو هذه القوة التي تحركك إلى الخير وأنت ساكن، وتسكنك عن الشر وأنت متحرك.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{الْحُكْمَ}: العلم بالمعارف الإلهية، أو هو الفهم. وتمت كلمة الله، وولد يحيى لزكريا. وبدأ ينمو ويترعرع في أحضان التقى وفي أجواء الإيمان، حتى إذا أكمل نموّه الجسدي والروحي، وانفتح على الله بروحه، وعلى الإيمان بفكره، وعلى المسؤولية بكل وعيه، جاءه النداء الخفي من الله، أن ينزل إلى الساحة، حيث يحتدم الصراع بين الآراء المتعددة والمذاهب المختلفة، وحيث تتصادم الأهواء في النظر إلى القضايا والأشياء بعيداً عن الموازين الدقيقة لها، ليأخذ دوره في مواجهة ذلك كله، بكلام الله، من موقع القوة المرتكزة على عمق الوعي وسعة الأفق، وشمول النظرة، وقوة الإرادة، وصلابة الموقف. {يا يحيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} واحمل التوراة التي تشمل كل شيء في العقيدة والتشريع والمنهج، لتؤكدها في حياة الناس، بالدعوة والحركة والخط، ولا تضعف أمام كل عوامل التحدي، وعناصر الضعف، بل تقدَّم بكل قوة، لأن الأقوياء هم الذين يملكون ساحة الفكر بقوة فكرهم، وساحة السلطة بقوة شخصيتهم، وثبات موقفهم. أما الضعفاء فيهزمهم الآخرون بأي أسلوب يضعف الروح، ويزلزل الفكر، ويهز الشعور، فينسحبون عن مواقعهم بسهولة. هؤلاء المنهزمون الضعفاء لا يمثلون شيئاً في حركة الصراع ومواجهة التحدي. وليست هذه الدعوة خاصة بيحيى، بل تشمل كل الذين يحملون رسالات الله من أنبياء أو مبلّغين، فإن على هؤلاء أن يحملوا رسالة الله بقوة وحسم بامتلاكهم العمق في المعرفة وصلابة الموقف ووضوح الهدف وصلابة الإرادة، والهدف في مواجهة التحدي المضادّ، وامتلاك السلاح في مواقع الجهاد. وتلك هي مسؤوليتهم التي يريد الله لهم أن يحملوها، ليتوازن الواقع على خط الهدف، وتندمج إرادة الإنسان في إرادة الله. وهذا ما أراده زكريا من خلال الولد الذي طلب إلى الله أن يهبه إياه، ليرثه ويرث من آل يعقوب، في حمل الرسالة، وفي ما تركه آل يعقوب من كتاب وحكمة وقوة، ليسيطروا على كل الذين يريدون الانحراف بالناس عن الخط المستقيم. {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} وتلك هي المعجزة الإلهية الثانية في خلق يحيى، فقد ألهمه الله الوعي الكامل للحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه، في كل المواقع التي يبحثون فيها عن الحاكم العادل الذي يعرف الشريعة مصادر وموارد، ويميز بين مواقعها، لتتحرك به النظرية في خطوط التطبيق. وهكذا ملأ الحكم كيانه، وتحرك في كل حياته وهو لا يزال صبياً لم يبلغ الحلم، ولم يصل إلى السن التي تؤهله لتبوّؤ المواقع المتقدمة للحكم في نظر الناس، باعتبار أن الحكم هو عنوان كبير لنضج العقل واكتماله، وسعة المعرفة واتزان المشاعر، وهي أمور لا تتحقق لصبي في عقله وحركته، وبالتالي فإنه لا يكون موضعاً للثقة، لأن ذلك يحتاج إلى قطع مراحل طويلة من النمو الطبيعي ومن معايشة التجارب. ولكنها إرادة الله التي تتصل بالحياة، فتمنحها كل عناصر القوة وكل عوامل السرعة في النمو، لأن إرادته لا تتخلف عن مراده في قضايا التكوين في ما يجده من أسرار الحكمة في حركة الإنسان في الحياة.