اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا} (12)

قوله عز وجل : { يا يحيى } ، قيل : فيه حذف معناه : وهبنا له يحيى ، وقلنا له : يا يحيى ، { خُذِ الكتاب } ، يعني التوراة ، وقيل يحتمل أن يكون كتابا خصَّ الله به يحيى ، كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك ، والأولى أولى ؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ، ولا معهود إلا التوراة .

وقوله { يا يحيى خُذِ الكتاب } يدلُّ على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك ، فحذف ذكره ؛ لدلالة الكلام عليه .

قوله : { بقُوَّة } حالٌ من الفاعل أو المفعول ، أي : ملتبساً أنت ، أو ملتبساً هو بقوَّة ؛ وليس المراد بالقوة القدرة على الأخذ ؛ لأن ذلك معلوم لكلَّ أحد ، فيجب حمله على معنى يفيد المدح ، وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة ، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمُور به ، والإحجام عن المنهيِّ عنه{[21449]} .

قوله : { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } .

قال ابن عبَّاس : الحكم : النُّبوة{[21450]} " صَبِيًّا " ؛ وهو ابن ثلاث سنين وقيل : الحكمُ فهم الكتاب ، فقرأ التوراة وهو صغيرٌ .

وقيل : هو العَقْل ، وهو قولُ مُعَمَّر .

وروي أنه قال : ما للَّعبِ خُلِقْنا{[21451]} .

والأوَّل أولى ؛ لأنَّ الله تعالى أحكم عقلهُ في صباه ، وأوحى إليه ، فإنَّ الله تعالى بعث عيسى ويحيى -عليهما الصلاة والسلام- وهما صبيَّانِ ، لا كما بعث موسى ومحمَّداً-عليهما الصلاة والسلام- وقد بلغا الأشُدَّ .

فإن قيل : كيف يعقلُ حصولُ العقل والفطنة والنُّبُوَّة حال الصِّبَا .

فالجوابُ : هذا السَّائِلُ إمَّا أن يمنع خرق العاداتِ ، أو لا يمنع منه ، فإن منع منه ، فقد سدَّ باب النبوات ؛ لأنَّ الأمر فيها على المعجزات ، ولا معنى لها إلا خرق العاداتِ ، وإن لم يمنع منه ، فقد زال هذا الاستبعادُ ؛ فإنَّه ليس استبعاد صيرورةِ الصَّبيِّ عاقلاً أشدَّ من استبعاد انشقاقِ القمر ، وانفلاق البحر ، و " صبيًّا " : حال من " هاء " آتيناه .


[21449]:ينظر: الفخر الرازي 21/163.
[21450]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/470) عن قتادة وعزاه إلى أحمد في "الزهد" وابن أبي حاتم.
[21451]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/470) عن معمر بن راشد وعزاه إلى أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي وابن عساكر وعن وقتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وعن ابن عباس مرفوعا وعزاه إلى الحاكم في "تاريخه" وعن معاذ مرفوعا وعزاه إلى ابن مردويه.