يقول تعالى لنبيه [ ورسوله محمد ]{[14659]} صلى الله عليه وسلم{[14660]} . هذه القصة وأشباههَا{[14661]} { مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ } يعني : من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك على وجهها [ وجليتها ]{[14662]} ، كأنك شاهدها{[14663]} ، { نُوحِيهَا إِلَيْكَ } أي : نعلمك بها وحيا{[14664]} منا إليك ، { مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } أي : لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها ، حتى يقول من يكذبك : إنك تعلمتها{[14665]} منه ، بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح ، كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك ، فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك ، وأذاهم لك ، فإنا سننصرك{[14666]} ونحوطك بعنايتنا ، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة ، كما فعلنا [ بإخوانك ]{[14667]} بالمرسلين{[14668]} حيث نصرناهم على أعدائهم ، { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ] } [ غافر : 51 ، 52 ] ، {[14669]}وقال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ] } [ الصافات : 171 - 173 ]{[14670]} ، وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هََذَا فَاصْبِرْ إِنّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه منْ أنْباءِ الغَيْبِ يقول : هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها ، نُوحيها إلَيْكَ يقول : نوحيها إليك نحن فنعرفكها ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الوحي الذي نوحيه إليك ، فاصبر على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقىَ من مشركي قومك ، كما صبر نوح . إنّ العاقِبَةَ للْمُتّقِينَ يقول : إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه فهم الفائزون بما يؤملون من النعيم في الاَخرة والظفر في الدنيا بالطّلِبة ، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله أن نجاه من الهلكة مع من آمن به وأعطاه في الاَخرة ما أعطاه من الكرامة ، وغرق المكذّبين به فأهلكهم جميعهم .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تِلْكَ مِنْ أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيها إلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا القرآن ، وما كان علم محمد صلى الله عليه وسلم وقومه ما صنع نوح وقومه ، لولا ما بين الله في كتابه .
{ تلك } إشارة إلى قصة نوح ومحلها الرفع بالابتداء وخبرها : { من أنباء الغيب } أي بعضها . { نوحيها إليك } خبر ثان والضمير لها أي موحاة إليك ، أو حال من ال { أنباء } أو هو الخبر و{ من أنباء } متعلق به أو حال من الهاء في { نوحيها } . { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك من قبل ايحائنا إليك ، أو حال من الهاء في نوحيها أو الكاف في { إليك } أي : جاهلا أنت وقومك بها ، وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يسمعوها فكيف بواحد منهم . { فاصبر } على مشاق الرسالة وأذية القوم كما صبر نوح . { إن العاقبة } في الدنيا بالظفر وفي الآخرة بالفوز . { للمتقين } عن الشرك والمعاصي .
استئناف أريد منه الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة والتسلية .
فالامتنان من قوله : { ما كنت تعلمها } .
والموعظة من قوله : { فاصبر } إلخ .
والتّسلية من قوله : { إن العاقبة للمتقين } .
والإشارة ب { تلك } إلى ما تقدم من خبر نوح عليه السّلام ، وتأنيث اسم الإشارة بتأويل أن المشار إليه القصة .
والأنباء : جمع نَبأ ، وهو الخبر . وأنباء الغيب الأخبار المغيبة عن الناس أو عن فريق منهم . فهذه الأنباء مغيبة بالنسبة إلى العرب كلهم لعدم علمهم بأكثر من مجملاتها ، وهي أنه قد كان في الزمن الغابر نبيء يقال له : نوح عليه السلام أصاب قومَه طوفان ، وما عدا ذلك فهو غيب كما أشار إليه قوله : { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } ، فإنهم لم ينكروا ذلك ولم يدّعوا علمه . على أن فيها ما هو غيب بالنسبة إلى جميع الأمم مثل قصة ابن نوح الرابع وعصيانه أبَاه وإصابته بالغرق ، ومثل كلام الرّب مع نوح عليه السّلام عند هبوطه من السفينة ، ومثل سخرية قومه به وهو يصنع الفلك ، وما دار بين نوح عليه السّلام وقومه من المحاورة ، فإن ذلك كله مما لم يذكر في كتب أهل الكتاب .
وجمل { من أنبَاء الغيب } و{ نوحيها } و{ ما كنتَ تعلمها } أخبار عن اسم الإشارة ، أو بعضها خبر وبعضها حال . وضمير { أنت } تصريح بالضمير المستتر في قوله : { تَعلمها } لتصحيح العطف عليه .
وعطف { ولا قومك } من الترقي ، لأن في قومه من خالط أهل الكتاب ومن كان يقرأ ويكتب ولا يعلم أحد منهم كثيراً مما أوحي إليه من هذه القصة .
والإشارة بقوله : { مِن قبل هذا } إما إلى القرآن ، وإما إلى الوقت باعتبار ما في هذه القصة من الزيادة على ما ذكر في أمثالها مما تقدم نزوله عليها ، وإما إلى { تلك } بتأويل النبأ ، فيكون التذكير بعد التأنيث شبيهاً بالالتفات .
ووجه تفريع أمر الرسول بالصبر على هذه القصة أن فيها قياس حاله مع قومه على حال نوح عليه السّلام مع قومه ، فكما صبر نوح عليه السّلام فكانت العاقبة له كذلك تكون العاقبة لك على قومك . وخبر نوح عليه السّلام مستفاد مما حكي من مقاومة قومه ومن ثباته على دعوتهم ، لأن ذلك الثبات مع تلك المقاومة من مسمى الصبر .
وجملة { إن العاقبة للمتقين } علة للصبر المأمور به ، أي اصبر لأن داعي الصبر قائم وهو أن العاقبة الحسنة تكون للمتقين ، فستكون لك وللمؤمنين معك .
والعاقبة : الحالة التي تَعقب حالةً أخرى . وقد شاعت عند الإطلاق في حالة الخير كقوله : { والعاقبة للتّقوى } [ طه : 132 ] .
والتعريف في { العاقبة } للجنس .
واللام في { للمتقين } للاختصاص والملك ، فيقتضي ملك المتقين لجنس العاقبة الحسنة ، فهي ثابتة لهم لا تفوتهم وهي منتفية عن أضدادهم .