قوله تعالى : { وشددنا ملكه } أي : قويناه بالحرس والجنود ، قال ابن عباس : كان أشد ملوك الأرض سلطاناً ، كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن حامد ، أنبأنا محمد بن خالد بن الحسن ، حدثنا داود بن سليمان ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا محمد بن الفضل ، أنبأنا داود بن أبي الفرات ، عن علي بن أحمد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود عليه السلام أن هذا غصبني بقراً ، فسأله داود فجحد ، فقال للآخر : البينة ؟ فلم يكن له بينة ، فقال لهما داود : قوما حتى أنظر في أمركما ، فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه ، فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت ، فأوحى الله إليه مرة أخرى فلم يفعل ، فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة ، فأرسل داود إليه فقال : إن الله أوحى إلي أن أقتلك ، فقال : تقتلني بغير بينة ؟ فقال داود : نعم والله لأنفذن أمر الله فيك ، فلما عرف الرجل أنه قاتله ، قال : لا تعجل حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته ، فلذلك أخذت ، فأمر به داود فقتل ، فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود ، واشتد به ملكه فذلك قوله عز وجل : { وشددنا ملكه } . { وآتيناه الحكمة } يعني : النبوة والإصابة في الأمور ، { وفصل الخطاب } قال ابن عباس : بيان الكلام . وقال ابن مسعود ، والحسن ، والكلبي ، ومقاتل : علم الحكم والتبصر في القضاء . وقال علي بن أبي طالب : هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به . ويروى ذلك عن أبي بن كعب قال : فصل الخطاب ، الشهود والأيمان . وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح . وروي عن الشعبي : أن فصل الخطاب : هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه : ( ( أما بعد ) ) إذا أراد الشروع في كلام آخر ، وأول من قاله داود عليه السلام .
قوله : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي : جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك . قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : كان أشد أهل الدنيا سلطاناً . وقال السدي : كان يحرسه في كل يوم أربعة آلاف . وقال بعض السلف : بلغني أنه كان حَرَسُه في كل ليلة ثلاثة وثلاثين ألفا لا تدور عليهم النوبة إلى مثلها من العام القابل . وقال غيره : أربعون ألفا مشتملون بالسلاح .
وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية عِلْباء بن أحمر عن عِكْرِمة عن ابن عباس : أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه السلام أنه اغتصبه بقراً فأنكر الآخر ، ولم يكن للمدعي بينة فأرجأ أمرهما فلما كان الليل أمر داود عليه السلام ، في المنام بقتل المدعي فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدعي فقال : يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقري ؟ فقال : إن الله عز وجل أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة . فقال : والله يا نبي الله إن الله لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه ، وإني لصادق فيما ادعيت ولكني كنت قد اغتلت أباه وقتلته ، ولم يشعر بذلك أحد فأمر به داود عليه السلام فقتل . قال ابن عباس : فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وهو الذي يقول الله عز وجل : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } .
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } : قال مجاهد : يعني : الفهم والعقل والفطنة . وقال مرة : الحكمة والعدل . وقال مرة : الصواب . وقال قتادة : كتاب الله واتباع ما فيه . وقال السدي : { الْحِكْمَةَ } النبوة . وقوله : { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } قال شريح القاضي والشعبي : فصل الخطاب : الشهود والأيمان ، وقال قتادة : شاهدان على المدعي أو يمين المدعى عليه هو فصل الخطاب الذي فصل به الأنبياء والرسل - أو قال : المؤمنون والصالحون - وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي . وقال مجاهد والسدي : هو إصابة القضاء وفهمه . وقال مجاهد أيضا : هو الفصل في الكلام وفي الحكم ، وهذا يشمل هذا كله وهو المراد واختاره ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شبة النميري حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال : أول من قال : " أما بعد " داود عليه السلام وهو فصل الخطاب . وكذا قال الشعبي : فصل الخطاب : أما بعد .
قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس - ويزيد وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا .
وقوله : ( وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ) : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي به شدّد ملكه ، فقال بعضهم : شدّد ذلك بالجنود والرجال ، فكان يحرسه كلّ يوم وليلة أربعة آلاف ، أربعة آلاف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّيّ ، قوله : ( وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ) : قال : كان يحرسه كلّ يوم وليلة أربعة آلاف ، أربعة آلاف .
وقال آخرون : كان الذي شدد به ملكه ، أن أُعطِيَ هيبة من الناس له لقضية كان قضاها . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حرب ، قال : حدثنا موسى ، قال : حدثنا داود ، عن علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم ، فاجتمعا عند داود النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال المستعدي : إن هذا اغتصبني بقرا لي ، فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده ، فسأل الاَخر البينة ، فلم يكن له بيّنة ، فقال لهما داود : قوما حتى أنظر في أمركما فقاما من عنده ، فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الرجل الذي استُعدي عليه ، فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت ، فأوحى الله إلى داود في منامه مرّة أخرى أن يقتل الرجل ، وأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرجل : إن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك ، فقال الرجل : تقتلني بغير بينة ولا تثبت ؟ فقال له داود : نعم ، والله لأنفذنّ أمر الله فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله ، قال : لا تعجل عليّ حتى أخبرك ، إني والله وما أُخِذت بهذا الذنب ، ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته ، فبذلك قُتلت ، فأمر به داود فقُتل ، فاشتدّت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود ، وشدد به ملْكه ، فهو قول الله : ( وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تبارك وتعالى أخبر أنه شَدّد ملك داود ، ولم يحضر ذلك من تشديده على التشديد بالرجال والجنود دون الهيبة من الناس له ولا على هيبة الناس له دون الجنود . وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا ، وجائز أن يكون كان بجميعها ، ولا قول أولى في ذلك بالصحة من قول الله ، إذ لم يحصُرْ ذلك على بعض معاني التشديد خبر يجب التسليم له .
وقوله : ( وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ ) : اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عُني بها النبوّة . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ ، قوله : وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ قال : النبوّة .
وقال آخرون : عُني بها أنه علم السنن . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ : أي السنة .
وقد بيّنا معنى الحكمة في غير هذا الموضع بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : وفَصْلَ الخِطابِ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : عني به أنه علم القضاء والفهم به . ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَآتَيْناهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطابِ قال : أعطي الفهم .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد وَفَصْلَ الخِطاب قال : إصابة القضاء وفهمه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَفَصْل الخِطابِقال : علم القضاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطابِ قال : الخصومات التي يخاصم الناس إليه فصل ذلك الخطاب ، الكلام الفهم ، وإصابة القضاء والبيّنات .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حُصين ، قال : سمعت أبا عبد الرحمن يقول : فصل الخطاب : القضاء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفصل الخطاب ، بتكليف المدّعي البينة ، واليمين على المدّعَى عليه . ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، قال : ثني الشعبيّ أو غيره ، عن شريح أنه قال في قوله : ( وفَصْلَ الخِطابِ ) : قال : بيّنة المدّعي ، أو يمين المُدّعى عليه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُليّة ، عن داود بن أبي هند ، في قوله : ( وآتَيْناه الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطابِ ) : قال : نُبّئت عن شريح أنه قال : شاهدان أو يمين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، قال : سمعت داود قال : بلغني أن شريحا قال فصل الخِطابِ الشاهدان على المدعي ، واليمين على من أنكر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن طاوس ، أن شريحا قال لرجل : إن هذا يعيب عليّ ما أُعْطِيَ داود ، الشهود والأيمان .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن شريح أنه قال في هذه الاَية وَفَصْلَ الخِطابِ قال : الشهود والأيمان .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبيّ ، في قوله : ( وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطابِ ) : قال : يمين أوْ شاهِدٌ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَفَصْلَ الخِطابِ البينة على الطالب ، واليمين على المطلوب ، هذا فصل الخطاب . وقال آخرون : بل هو قولُ : أما بعد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن الشعبيّ في قوله : ( وَفَصْلَ الخِطابِ ) : قال : قول الرجل : أما بعد .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه آتى داود صلوات الله عليه فصل الخطاب ، والفصل : هو القطع ، والخطاب هو المخاطبة ، ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل في حال احتكام أحدهما إلى صاحبه قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم إليه وخصمه بصواب من الحكم ، ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه إلزام المخاطب في الحكم ما يجب عليه إن كان مدعيا ، فإقامة البينة على دعواه وإن كان مدعى عليه فتكليفه اليمين إن طلب ذلك خصمه . ومن قطع الخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء في أخرى الفصل بينهما بأما بعد . فإذ كان ذلك كله محتملاً ظاهر الخبر ولم تكن في هذه الاَية دلالة على أيّ ذلك المرادُ ، ولا ورد به خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت ، فالصواب أن يعم الخبر ، كما عمه الله ، فيقال : أُوتي داود فصل الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب .
{ وشددنا ملكه } وقويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود ، وقرئ بالتشديد للمبالغة . قيل : إن رجلا ادعى بقرة على آخر وعجز عن البيان ، فأوحى إليه أن اقتل المدعى عليه فأعلمه فقال : صدقت إني قتلت أباه وأخذت البقرة فعظمت بذلك هيبته . { وآتيناه الحكمة } النبوة أو كمال العلم واتقان العمل . { وفصل الخطاب } وفصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل ، أو الكلام المخلص الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف ، والإضمار والحذف والتكرار ونحوها ، وإنما سمي به أما بعد لأنه يفصل المقصود عما سبق مقدمة له من الحمد والصلاة ، وقيل هو الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام الرسول صلى الله عليه وسلم " فصل لا نزر ولا هذر " .
وقوله تعالى : { وشددنا ملكه } عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة ، وقد خصص بعض المفسرين في ذلك أشياء دون أشياء ، فقال السدي : بالجنود . وقال آخرون : بهيبة جلعها الله تعالى له .
وقرأ الجمهور : «وشدَدنا » بتخفيف الدال الأولى ، وروي عن الحسن : «شدّدنا » بشدها على المبالغة .
و { الحكمة } : الفهم في الدين وجودة النظر ، هذا قول فرقة . وقالت فرقة : أراد ب { الحكمة } النبوءة . وقال أبو العالية : { الحكمة } العلم الذي لا ترده العقول .
قال القاضي أبو محمد : هي عقائد البرهان واختلف الناس في { فصل الخطاب } ، فقال ابن عباس ومجاهد والسدي : فصل القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه . وقال علي بن أبي طالب وشريح والشعبي : { فصل الخطاب } إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعي . وقال الشعبي أيضاً وزياد : أراد قول أما بعد ، فإنه أول من قالها ، والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه ، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف ، وهذه صفة قليل من يدركها ، فكان كلامه عليه السلام فصلاً ، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن : { إنه لقول فصل } [ الطارق : 13 ] ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير ، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله : «وأعطيت جوامع الكلم » فإنها في الخلال التي لم يؤتها أحد قبله ، ذكر جوامع الكلم معدودة في ذلك مسلم .
الشد : الإِمساك وتمكّن اليد مما تمسكه ، فيكون لقصد النفع كما هنا ، ويكون لقصد الضرّ كقوله : { واشدد على قلوبهم في سورة } [ يونس : 88 ] .
فشدّ الملك هو تقوية ملكه وسلامته من أضرار ثورة لديه ومن غلبة أعدائه عليه في حروبه .
وقد ملك داود أربعين سنة ومات وعمره سبعون سنة في ظل ملك ثابت .
و { الحكمة } : النبوءة . والحكمة في الأعم : العلم بالأشياء كما هي والعمل بالأمور على ما ينبغي ، وقد اشتمل كتاب « الزبور » على حِكَم جمَّة .
و { فصل الخطاب } : بلاغة الكلام وجمعه للمعنى المقصود بحيث لا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان ، ووصف القول ب ( الفصل ) وصف بالمصدر ، أي فاصل . والفاصل : الفارق بين شيئين ، وهو ضدّ الواصل ، ويطلق مجازاً على ما يميز شيئاً عن الاشتباه بضده . وعطفه هنا على الحكمة قرينة على أنه استعمل في معناه المجازي كما في قوله تعالى : { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [ النبأ : 17 ] .
والمعنى : أن داود أوتي من أصالة الرأي وفصاحة القول ما إذا تكلّم جاء بكلام فاصل بين الحقّ والباطل شأن كلام الأنبياء والحكماء ، وحسبك بكتابه « الزبور » المسمّى عند اليهود ب« المزامير » فهو مثل في بلاغة القول في لغتهم .
وعن أبي الأسود الدؤلي : { فصل الخطاب } هو قولُه في خطبه « أما بعد » قال : وداود أول من قال ذلك ، ولا أحسب هذا صحيحاً لأنها كلمة عربية ولا يعرف في كتاب داود أنه قال ما هو بمعناها في اللغة العبرية ، وسميت تلك الكلمة فصل الخطاب عند العرب لأنها تقع بين مقدمة المقصود وبين المقصود . فالفصل فيه على المعنى الحقيقي وهو من الوصف بالمصدر ، والإِضافة حقيقية . وأول من قال : « أما بعد » هو سحبان وائل خطيب العرب ، وقيل : { فصل الخطاب } القضاء بين الخصوم وهذا بعيد إذ لا وجه لإِضافته إلى الخطاب .
واعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل ما أعطي داود فكان أوّاباً ، وهو القائل : « إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة » ، وسخر له جبل حراء على صعوبة مسالكه فكان يتحنّث فيه إلى أن نزل عليه الوحي وهو في غار ذلك الجبل ، وعَرضت عليه جبال مكة أن تصير له ذهباً فأبى واختار العبودية وسخرت له من الطير الحَمَام فبنت وكرها على غار ثور مدة اختفائه به مع الصديق في مسيرهما في الهجرة . وشدّ الله مُلك الإِسلام له ، وكفاه عدوّه من قرابته مثل أبي لهب وابنه عتبة ومن أعدائه مثل أبي جهل ، وآتاه الحكمة ، وآتاه فصل الخطاب قال : « أوتيت جوامع الكَلِم واختصر لي الكلام اختصاراً » بَلْهَ ما أوتيه الكتاب المعجز بلغاء العرب عن معارضته ، قال تعالى في وصف القرآن : { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } [ الطارق : 13 - 14 ] .