معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ} (26)

{ قيل ادخل الجنة } فلما أفضى إلى الجنة . { قال يا ليت قومي يعلمون* }

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ} (26)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: قال الله له إذ قتلوه كذلك فلقيه:"ادْخُلِ الجَنّةَ"، فلما دخلها وعاين ما أكرمه الله به لإيمانه وصبره فيه "قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لي رَبّي "يقول: يا ليتهم يعلمون أن السبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وجعلني من الذين أكرمهم الله بإدخاله إياه جنته، كان إيماني بالله وصبري فيه، حتى قتلت، فيؤمنوا بالله ويستوجبوا الجنة... عن قتادة، قوله: "قِيلَ ادْخُلِ الجَنّةِ فلما دخلها قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلِني مِنَ المُكْرَمِينَ"، قال: فلا تلقى المؤمن إلاّ ناصحا، ولا تلقاه غاشا، فلما عاين من كرامة الله قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ بمَا غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله، وما هجم عليه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{قيل ادخُلِ الجنة} يحتمل دخول الجنة ما ذكر للشهداء [عز وجل بقوله]: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} {فرحين} الآية [آل عمران: 169 و170] وأن يكون قوله: {قيل ادخل الجنة} أن يقال له في الآخرة كقوله لعيسى ابن مريم: {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين} [المائدة: 116].

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فيه قولان: أحدهما: أنه أمر بدخول الجنة.

الثاني: أنه أخبر بأنه قد استحق دخول الجنة؛ لأن دخولها يستحق بعد البعث.

{قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} في هذا التمني منه قولان: أحدهما: أنه تمنى أن يعلموا حاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته.

الثاني: أنه تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله. قال ابن عباس: نصح قومه حياً وميتاً.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

تَمَنَّى أن يعلم قومُه حاله، فَحَقَّقَ اللَّهُ مُنَاه، وأخبر عن حاله، وأنزل به خطابه، وعَرَفَ قومُه ذلك.

وإنما تمنَّى وأراد ذلك إشفاقاً عليهم، ليعملوا مثلما عَمِلَ لِيَجدُوا مثلما وَجَدَ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

إن قلت: كيف مخرج هذا القول في علم البيان؟ قلت: مخرجه مخرج الاستئناف؛ لأنّ هذا من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه، كأنّ قائلاً قال: كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في نصرة دينه والتسخي لوجهه بروحه؟ فقيل: قيل ادخل الجنة، ولم يقل قيل له؛ لانصباب الغرض إلى المقول وعظمه، لا إلى القول له مع كونه معلوماً.

وكذلك {قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ} مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم،وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام. ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزاً ولم تعقبه إلا سعادة؛ لأنّ في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور. والأوّل أوجه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قيل له عند موته {ادخل الجنة} وذلك والله أعلم بأن عرض عليه مقعده منها، وتحقق أنه من ساكنيها برؤيته ما أقر عينه، وقال قتادة بن دعامة: نصحهم على حالة الغضب والرضى، وكذلك لا تجد المؤمن إلا ناصحاً للناس.

«ما» في قوله تعالى: {بما} يجوز أن تكون مصدرية أي بغفران ربي لي، ويجوز أن تكون بمعنى الذي، وفي غفر ضمير عائد محذوف قال الزهراوي: ويجوز أن يكون استفهاماً ثم ضعفه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان من المعلوم -بما دل عليه من صلابتهم في تكذيبهم الرسل وتهديدهم مع ما لهم من الآيات- أنهم لا يبقون هذا الذي هو من مدينتهم وقد صارحهم بما إن أغضوا عنه فيه انتقض عليهم أكثر أمرهم، لم يذكره تعالى عدّاً له عداد ما لا يحتاج إلى ذكره، وقال جوابا لمن تشوف إلى علم حاله بعد ذلك بقوله إيجازاً في البيان ترغيباً لأهل الإيمان: {قيل} أي له بعد قتلهم إياه، فبناه للمفعول وحذفه؛ لأن المقصود القول لا قائله والمقول له معلوم: {ادخل الجنة} لأنه شهيد، والشهداء يسرحون في الجنة حيث شاؤوا من حين الموت.

ولما كان الطبع البشري داعياً إلى محبة الانتقام ممن وقع منه الأذى بين سبحانه أن الأصفياء على غير ذلك الحال، فقال مستأنفاً: {قال يا ليت قومي} أي الذين فيهم قوة لما يراد منهم، فلو كانت قوتهم على الكفار لكانت حسنة {يعلمون}

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوه أن قتلوه. وإن كان لا يذكر شيئاً من هذا صراحة. إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها، وعلى القوم وما هم فيه؛ ويرفعه لنرى هذا الشهيد الذي جهر بكلمة الحق، متبعاً صوت الفطرة، وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل. نراه في العالم الآخر. ونطلع على ما ادخر الله له من كرامة. تليق بمقام المؤمن الشجاع المخلص الشهيد:

(قيل: ادخل الجنة. قال: يا ليت قومي يعلمون. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)..

وتتصل الحياة الدنيا بالحياة الآخرة. ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء. وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة. ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق. ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم. ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف بياني لما ينتظره سامع القصة من معرفة ما لقيه من قومه بعد أن واجههم بذلك الخطاب الجَزل. وهل اهتدوا بهديه أو أعرضوا عنه وتركوه أو آذوه كما يُؤذَى أمثاله من الداعين إلى الحق المخالفين هوَى الدهمَاء فيجاب بما دل عليه قوله: {قيل ادخل الجنة} وهو الأهم عند المسلمين وهم من المقصودين بمعرفة مثل هذا ليزدادوا يقيناً وثباتاً في إيمانهم، وأما المشركون فحظهم من المَثل ما تقدم وما يأتي من قوله: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} [يس: 29].

والمقولُ له هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة وإنما لم يذكر ضمير المقول له مجروراً باللام؛ لأن القول المذكور هنا قول تكويني لا يقصد منه المخاطب به بل يقصد حكاية حصوله؛ لأنه إذا حصل حصل أثره كقوله تعالى: {أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40].

وإذ لم يقَصَّ في المثَل أنه غادر مَقامه الذي قام فيه بالموعظة كان ذلك إشارة إلى أنه مات في مقامه ذلك، ويفهم منه أنه مات قتيلاً في ذلك الوقت أو بإثره.

وإنما سلك في هذا المعنى طريق الكناية ولم يصرح بأنهم قتلوه إغماضاً لهذا المعنى عن المشركين؛ كيلا يسرّهم أن قومه قتلوه فيجعلوه من جملة ما ضرب به المثل لهم وللرسول صلى الله عليه وسلم فيطمعوا فيه، أنهم يقتلون الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه الكناية لا يفهمها إلا أهل الإِسلام الذين تقرر عندهم التلازم بين الشهادة في سبيل الله ودخول الجنة، أما المشركون فيحسبون أن ذلك في الآخرة. وقد تكون في الكلام البليغ خصائص يختص بنفعها بعض السامعين.

وجملة {قال يا ليت قومي يعلمون} مستأنفة أيضاً استئنافاً بيانياً؛ لأن السامع يترقب ماذا قال حين غمره الفرح بدخول الجنة. والمعنى: أنه لم يُلهِه دخوله الجنة عن حال قومه، فتمنى أن يعلموا ماذا لقي من ربه ليعلموا فضيلة الإِيمان فيؤمنوا وما تمنّى هلاكهم ولا الشماتة بهم فكان متّسِماً بكظم الغيظ وبالحلم على أهل الجهل، وذلك لأن عالم الحقائق لا تتوجه فيه النفس إلا إلى الصلاح المحض ولا قيمة للحظوظ الدنية وسفساف الأمور.

وأدخلت الباء على مفعول {يعلمون} لتضمينه معنى: يُخبَرون؛ لأنه لا مطمع في أن يحصل لهم علم ذلك بالنظر والاستدلال.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... من مؤهلات هذا الرجل لدخول الجنة أنه لم ينظر إلى حَظِّ نفسه من التديُّن، إنما نظر أيضاً إلى حَظِّ إخوانه، فحتى بعد أنْ بُشِّر بالجنة، أو بعد أنْ دخلها لم ينشغل بنعيمها عن قومه، إنما قال {يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} يعني: ما أنا فيه من النعيم، وما انتهى إليه أمر الإيمان والطاعة، ليعملوا مثلي ولينالوا ما نِلْت، إنهم لو علموا لتهافتوا على الإيمان، وأقبلوا على الطاعة أكثر من تهافتهم على الكفر والمعصية.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ} (26)

" قيل ادخل الجنة " . فلما شاهدها " قال يا ليت قومي يعلمون ، بما غفر لي ربي " أي بغفران ربي لي ، ف " ما " مع الفعل بمنزلة المصدر . وقيل : بمعنى الذي والعائد من الصلة محذوف . ويجوز أن تكون استفهاما فيه معنى التعجب ، كأنه قال ليت قومي يعلمون بأي شيء غفر لي ربي ، قاله الفراء . واعترضه الكسائي فقال : لو صح هذا لقال بم من غير ألف . وقال الفراء : يجوز أن يقال بما بالألف وهو استفهام وأنشد فيه أبياتا . الزمخشري : " بم غفر لي " بطرح الألف أجود ، وإن كان إثباتها جائزا . يقال : قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت . المهدوي : وإثبات الألف في الاستفهام قليل . فيوقف على هذا على " يعلمون " . وقال جماعة : معنى " قيل ادخل الجنة " وجبت لك الجنة ، فهو خبر بأنه قد استحق دخول الجنة ؛ لأن دخولها يستحق بعد البعث .

قلت : والظاهر من الآية أنه لما قتل قيل له ادخل الجنة . قال قتادة : أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق ، أراد قوله تعالى : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " [ آل عمران : 169 ] على ما تقدم في " آل عمران " {[13206]} بيانه . والله أعلم .

قوله تعالى : " قال يا ليت قومي يعلمون " وهو مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قول عند ذلك الفوز العظيم الذي هو : " بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين "


[13206]:راجع ج 4 268 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.