البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ} (26)

{ قيل أدخل الجنة } : ظاهره أن أمر حقيقي .

وقيل : معناه وجبت لك الجنة ، فهو خبر بأنه قد استحق دخولها ، ولا يكون إلا بعد البعث ، ولم يأت في القرآن أنه قتل .

فقال الحسن : لما أراد قومه قتله ، رفعه الله إلى السماء ، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السموات وهلاكه الجنة ، فإذا أعاد الله الجنة دخلها .

وقيل : لما قال ذلك ، رفعوه إلى الملك ، فطول معهم الكلام ليشغلهم عن قتل الرسل إلى أن صرح لهم بإيمانه ، فوثبوا عليه فقتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قلبه من دبره وألقي في بئر ، وهي الرس .

وقال السدي : رموه بالحجارة وهو يقول : «اللهم اهد قومي » ، حتى مات .

وقال الكلبي : رموه في حفرة ، وردوا التراب عليه فمات .

وعن الحسن : حرقوه حرقاً ، وعلقوه في باب المدينة ، وقبره في سور أنطاكية .

وقيل : نشروه بالمناشير حتى خرج من بين رجليه .

وعن قتادة : أدخله الله الجنة ، وهو فيها حي يرزق .

أراد قوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين } وفي النسخة التي طالعنا من تفسير ابن عطية ما نصه .

وقرأ الجمهور : فاسمعون بفتح النون .

قال أبو حاتم : هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر ، فإما حذف النون ، وإما كسرها على جهة البناء .

انتهى ، يعني ياء المتكلم والنون للوقاية .

وقوله : وقرأ الجمهور وهم فاحش ، ولا يكون ، والله أعلم ، إلا من الناسخ ؛ بل القراء مجمعون فيما أعلم على كسر النون ، سبعتهم وشواذهم ، إلا ما روي عن عصمة عن عاصم من فتح النون ، ذكره في الكامل مؤلف أبي القاسم الهذلي ، ولعل ذلك وهم من عصمة .

وقال ابن عطية : هنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات ، وهو أنهم قتلوه ، فقيل له عند موته : { ادخل الجنة } ، وذلك والله أعلم ، بأن عرض عليه مقعده منها ، وتحقق أنه من ساكنيها ، فرأى ما أقر عينه ، فلما حصل ذلك ، تمنى أن يعلم قومه بذلك . انتهى .

وقول : { قيل ادخل الجنة } كأنه جواب لسائل عن حاله عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه فقيل : { ادخل الجنة } ، ولم يأت التركيب : قيل له ، لأنه معلوم أنه المخاطب ، وتمنيه علم قومه بذلك هو مرتب على تقدير سؤال عن ما وجد من قوله عند ذلك استيفاقاً ونصحاً لهم ، أي لو علموا ذلك لآمنوا بالله .

وفي الحديث : " نصح قومه حياً وميتاً " وقيل : تمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ في أمره ، وهو على صواب ، فيندموا ويحزنهم ذلك ويبشر بذلك .

وموجود في طباع النشر أن من أصاب خيراً في غير موطنه ، ودَّ أن يعلم بذلك جيرانه وأترا به الذين نشأ فيهم .

وبلغنا أن الوزير ذنك الدين المسيري ، وكان وزيراً لملك مصر ، راح إلى قريته التي كان منها ، وهي مسير ، وهي من أصغر قرى مصر ، فقيل له في ذلك ، فقال : أردت أن يراني عجائز مسير في هذه الحالة التي أنا فيها ، قال الشاعر :

والعز مطلوب وملتمس *** وأحبه ما نيل في الوطن