معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{بَلۡ عَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡ فَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا شَيۡءٌ عَجِيبٌ} (2)

واختلفوا في جواب هذا القسم ، فقال أهل الكوفة : جوابه : { بل عجبوا } وقيل : جوابه محذوف ، مجازه : والقرآن المجيد لتبعثن . وقيل : جوابه قوله :{ ما يلفظ من قول } . وقيل : قد علمنا ، وجوابات القسم سبعة : إن الشديدة كقوله :{ والفجر وليال عشر }( الفجر-1 ) { إن ربك لبالمرصاد }( الفجر-14 ) ، وما النفي كقوله : { والضحى ودعك ربك } ( الضحى ) ، واللام المفتوحة كقوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين } ( الحجر-2 ) وإن الخفيفة كقوله تعالى تالله : { إن كنا لفي ضلال مبين } ( الشعراء-97 ) ، ولا كقوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت }( النحل-38 ) ، وقد كقوله تعالى : { والشمس وضحاها . قد أفلح من زكاها }( الشمس-1-7 ) ، وبل كقوله : { والقرآن المجيد } { بل عجبوا أن جاءهم منذر } مخوف ، { منهم } يعرفون نسبه وصدقه وأمانته ، { فقال الكافرون هذا شيء عجيب } غريب .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{بَلۡ عَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡ فَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا شَيۡءٌ عَجِيبٌ} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم استأنف {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، {فقال الكافرون} من أهل مكة {هذا شيء عجيب} يعني هكذا الأمر عجيب أن يكون محمد رسولا...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما كذّبك يا محمد مشركو قومك أن لا يكونوا عالمين بأنك صادق محقّ، ولكنهم كذّبوا تعجبا من أن جاءهم منذر ينذرهم عقاب الله منهم، يعني بشرا منهم من بني آدم، ولم يأتهم مَلك برسالة من عند الله.

"فَقالَ الكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ": فقال المكذّبون بالله ورسوله من قريش إذ جاءهم منذر منهم: "هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ": أي مجيء رجل منا من بني آدم برسالة الله إلينا، هَلاّ أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والتعجب يثير في النفس تعظيم الأمر الخارج عن العادة الذي لا يقع بسببه معرفة... وقيل: العجب هو كل مالا يعرف علته ولا سببه، وأفحش العجب التعجب مما ليس بعجب على طريق الإنكار للحق، لأنه يجتمع فيه سببا القبيح، فهؤلاء تعجبوا من مجيء النذير من الله تعالى إليهم فقد فحشوا غاية التفحش، مع أنه مما يعظم ضرر الجهل به...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته، ومن كان على صفته لم يكن إلا ناصحاً لقومه مترفرفاً عليهم، خائفاً أن ينالهم سوء ويحل بهم مكروه، وإذا علم أنّ مخوفاً أظلهم، لزمه أن ينذرهم ويحذرهم، فكيف بما هو غاية المخاوف ونهاية المحاذير.

وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث، مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السموات والأرض وما بينهما، وعلى اختراع كل شيء وإبداعه، وإقرارهم بالنشأة الأولى، ومع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

إن تكذيبهم ليس لإنكار شيء من مجده [القرآن الكريم] ولا لإنكار صدقك الذي هو من مجده، بل لأنهم {عجبوا} أي الكفار...

{أن جاءهم منذر} أنذرهم حق الإنذار من عذاب الله عند البعث الذي هو محط الحكمة، وعجب منهم هذا العجب بقوله: {منهم} لأن العادة عندهم وعند جميع الناس أنه- إذا كان النذير منهم لم يداخلهم في إنذاره شك بوجه من الوجوه، وهؤلاء خالفوا عادة الناس في تعجبهم من كون النذير -وهو أحدهم- خص بالرسالة دونهم، ولم يدركوا وجه الخصوصية لكونه مثلهم... {فقال} أي بسبب إنذاره بالبعث وعقبه {الكافرون} فأظهر في موضع الإنذار إيذاناً بأنهم لم يخف عليهم شيء من أمره، ولكنهم ستروا تعدياً بمرأى عقولهم الدالة على جميع أمره دلالة ظاهرة... {هذا} أن كون النذير منا خصص بالرسالة من دوننا، وكون ما أنذر به هو البعث بعد الموت {شيء عجيب} أي بليغ في الخروج عن عادة أشكاله، وقد كذبوا في ذلك...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{فَقَالَ الْكَافِرُونَ} الذين حملهم كفرهم وتكذيبهم، لا نقص بذكائهم وآرائهم {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أي: مستغرب، وهم في هذا الاستغراب بين أمرين: إما صادقون في استغرابهم وتعجبهم، فهذا يدل على غاية جهلهم، وضعف عقولهم، بمنزلة المجنون، الذي يستغرب كلام العاقل، وبمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان، وبمنزلة البخيل، الذي يستغرب سخاء أهل السخاء، فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله؟ وهل تعجبه، إلا دليل على زيادة ظلمه وجهله؟ وإما أن يكونوا متعجبين، على وجه يعلمون خطأهم فيه، فهذا من أعظم الظلم وأشنعه...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم. وما في هذا من عجب. بل هو الأمر الطبيعي الذي تتقبله الفطرة السليمة ببساطة وترحيب. الأمر الطبيعي أن يختار الله من الناس واحدا منهم، يحس بإحساسهم، ويشعر بشعورهم، ويتكلم بلغتهم، ويشاركهم حياتهم ونشاطهم، ويدرك دوافعهم وجواذبهم، ويعرف طاقاتهم واحتمالهم، فيرسله إليهم لينذرهم ما ينتظرهم إن هم ظلوا فيما هم فيه؛ ويعلمهم كيف يتجهون الاتجاه الصحيح؛ ويبلغهم التكاليف التي يفرضها الاتجاه الجديد، وهو معهم أول من يحمل هذه التكاليف.

ولقد عجبوا من الرسالة ذاتها، وعجبوا -بصفة خاصة- من أمر البعث الذي حدثهم عنه هذا المنذر أول ما حدثهم. فقضية البعث قاعدة أساسية في العقيدة الإسلامية. قاعدة تقوم عليها العقيدة ويقوم عليها التصور الكلي لمقتضيات هذه العقيدة. فالمسلم مطلوب منه أن يقوم على الحق ليدفع الباطل وأن ينهض بالخير ليقضي على الشر، وأن يجعل نشاطه كله في الأرض عبادة لله، بالتوجه في هذا النشاط كله لله. ولا بد من جزاء على العمل. وهذا الجزاء قد لا يتم في رحلة الأرض. فيؤجل للحساب الختامي بعد نهاية الرحلة كلها. فلا بد إذن من عالم آخر، ولا بد إذن من بعث للحساب في العالم الآخر.. وحين ينهار أساس الآخرة في النفس ينهار معه كل تصور لحقيقة هذه العقيدة وتكاليفها؛ ولا تستقيم هذه النفس على طريق الإسلام أبدا.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{بل عجبوا} خبر مستعمل في الإنكار إنكاراً لعجبهم البالغ حدّ الإحالة.

و {عجبوا} حصل لهم العجَب -بفتح الجيم- وهو الأمر غير المألوف للشخص؛ {قالت يا وَيْلَتَا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لَشَيْء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله} [هود: 72، 73] فإن الاستفهام في {أتعجبين} إنكار، وإنما تنكر إحالة ذلك لا كونه موجب تعجّب. فالمعنى هنا: أنهم نفوا جواز أن يرسل الله إليهم بشراً مثلهم، قال تعالى: {وما منع الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً} [الإسراء: 94].

وضمير {عجبوا} عائد إلى غير مذكور، فمعاده معلوم من السياق أعني افتتاح السورة بحرف التهجّي الذي قصد منه تعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن لأن عجزهم عن الإتيان بمثله في حال أنه مركب من حروف لغتهم يدلهم على أنه ليس بكلام بشر بل هو كلام أبدعته قدرة الله وأبلغه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على لسان المَلك فإن المتحدَّيْن بالإعجاز مشهورون يعلمهم المسلمون وهم أيضاً يعلمون أنهم المعنيون بالتحدّي بالإعجاز.

على أنه سيأتي ما يفسر الضمير بقوله: {فقال الكافرون}...

وعبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف {منذر} وهو المخبِر بشَرّ سيكون للإيماء إلى أن عَجَبهم كان ناشئاً عن صفتين في الرسول صلى الله عليه وسلم إحداهما أنه مخبر بعذاب يكون بعد الموت، أي مخبر بما لا يصدقون بوقوعه، وإنما أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعذاب الآخرة بعد البعث كما قال تعالى: {إن هو إلا نذير لكم بين يديْ عذاب شديد} [سبأ: 46]. والثانية كونه من نوع البشر.

وفُرِّعَ على التكذيب الحاصل في نفوسهم ذِكر مقالتهم التي تفصح عنه وعن شبهتهم الباطلة بقوله: {فقال الكافرون هذا شيء عجيب} الآية. وخص هذا بالعناية بالذكر لأنه أدخل عندهم في الاستبْعاد وأحق بالإنكار فهو الذي غرهم فأحالوا أن يرسل الله إليهم أحد من نوعهم ولذلك وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء بصفة {منذر} قبل وصفه بأنه {منهم} ليدل على أن ما أنذرهم به هو الباعث الأصلي لتكذيبهم إياه وأن كونه منهم إنما قوَّى الاستبعاد والتعجّب.

ثم إن ذلك يُتخلص منه إلى إبطال حجتهم وإثبات البعث وهو المقصود بقوله: {قد علِمْنا مَا تنقصُ الأرض منهم إلى قوله: كذلك الخروج} [ق: 4 11]. فقد حصل في ضمن هاتين الفاصلتين خصوصيات كثيرة من البلاغة: منها إيجاز الحذف، ومنها ما أفاده الإضراب من الاهتمام بأمر البعث، ومنها الإيجاز البديع الحاصل من التعبير ب {منذر}، ومنها إقحام وصفه بأنه {منهم} لأن لذلك مدخلاً في تعجبهم، ومنها الإظهار في مقام الإضمار على خلاف مقتضَى الظاهر، ومنها الإجمال المعقب بالتفصيل في قوله: {هذا شيء عجيب أئذا متنا} الخ.

وعبُر عنهم بالاسم الظاهر في {فقال الكافرون} دون: فقالوا، لتوسيمهم فإن هذه المقالة من آثار الكفر، وليكون فيه تفسير للضميرين السابقين.

والإشارة بقولهم {هذا شيء عجيب} إلى ما هو جار في مقام مقالتهم تلك من دعاء النبيء صلى الله عليه وسلم إياهم للإيمان بالرَّجْع، أي البعث وهو الذي بينتْه جملة {أئذا متنا وكنا تراباً}.