معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (39)

ثم دعاهما إلى الإسلام فقال : { يا صاحبي السجن } ، جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه ، كما يقال لسكان الجنة : أصحاب الجنة ، ولسكان النار : أصحاب النار ، { أأرباب متفرقون } ، أي : آلهة شتى ، هذا من ذهب ، وهذا من فضة ، وهذا من حديد ، وهذا أعلى ، وهذا أوسط ، وهذا أدنى ، متباينون لا تضر ولا تنفع ، { خير أم الله الواحد القهار } ، الذي لا ثاني له . القهار : الغالب على الكل .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (39)

35

( يا صاحبي السجن ، أأرباب متفرقون خير ؟ أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن الحكم إلا لله . أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

لقد رسم يوسف - عليه السلام - بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة ، كل معالم هذا الدين ، وكل مقومات هذه العقيدة . كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا عنيفا . .

( يا صاحبي السجن ، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ) . .

إنه يتخذ منهما صاحبين ، ويتحبب إليهما هذه الصفة المؤنسة ، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجسم العقيدة . وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة ، إنما يعرضها قضية موضوعية :

( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ) . .

وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزا شديدا . . إن الفطرة تعرف لها إلها واحد ففيم إذن تعدد الأرباب ؟ . . إن الذي يستحق أن يكون ربا يعبد ويطاع أمره ويتبع شرعه هو الله الواحد القهار . ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود فيجب تبعا لذلك أن يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس . وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد ، وأنه هو القاهر ، ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره ، ويتخذوا بذلك من دون الله ربا . . إن الرب لا بد أن يكون إلها يملك أمر هذا الكون ويسيره . ولا ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله ربا للناس يقهرهم بحكمه ، وهو لا يقهر هذا الكون كله بأمره !

والله الواحد القهار خير أن يدين العباد لربوبيته من أن يدينوا للأرباب المتفرقة الأهواء الجاهلة القاصرة العمياء عن رؤية ما وراء المنظور القريب - كالشأن في كل الأرباب إلا الله - وما شقيت البشرية قط شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم ، وتوزع العباد بين أهوائهم وتنازعهم . . فهذه الأرباب الأرضية التي تغتصب سلطان الله وربوبيته ؛ أو يعطيها الجاهليون هذا السلطان تحت تأثير الوهم والخرافة والأسطورة ، أو تحت تأثير القهر أو الخداع أو الدعاية ! هذه الأرباب الأرضية لا تملك لحظة أن تتخلص من أهوائها ، ومن حرصها على ذواتها وبقائها ، ومن الرغبة الملحة في استبقاء سلطانها وتقويته ، وفي تدمير كل القوى والطاقات التي تهدد ذلك السلطان من قريب أومن بعيد ؛ وفي تسخير تلك القوى والطاقات في تمجيدها والطبل حولها والزمر والنفخ فيها كي لا تذبل ولا تنفثى ء نفختها الخادعة !

والله الواحد القهار في غنى عن العالمين ؛ فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل والعمارة - وفق منهجه - فيعد لهم هذا كله عبادة . وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم ، لإصلاح حياتهم وواقعهم . . وإلا فما أغناه سبحانه عن عباده أجمعين ! ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغني الحميد ) . . ففرق بين الدينونة لله الواحد القهار والدينونة للأرباب المتفرقة بعيد !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (39)

استيناف ابتدائي مصدر بتوجيه الخطاب إلى الفتيين بطريق النداء المسترعي سمعهما إلى ما يقوله للاهتمام به .

وعبّر عنهما بوصف الصحبة في السجن دون اسميهما إمّا لجهل اسميهما عنده إذ كانا قد دخلا السجن معه في تلك الساعة قبل أن تطول المعاشرة بينهما وبينه ، وإما للإيذان بما حدث من الصلة بينهما وهي صلة المماثلة في الضراء الإلف في الوحشة ، فإن الموافقة في الأحوال صلة تقوم مقام صلة القرابة أو تفوقها .

واتفق القراء على كسر سين { السّجن } هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه المعاقبون ، لأن الصاحب لا يضاف إلى السجن إلا بمعنى المكان .

والإضافة هنا على تقدير حرف الظرفية ، مثل : مكر الليل ، أي يا صاحبيْن في السجن .

وأراد بالكلام الذي كلّمهما به تقريرهما بإبطال دينهما ، فالاستفهام تقريري . وقد رَتّب لهما الاستدلال بوجه خطابي قريب من أفهام العامة ، إذ فرض لهما إلهاً واحداً مستفرداً بالإلهية كما هو حال ملته التي أخبرهم بها . وفرض لهما آلهة متفرقين كل إله منهم إنما يتصرف في أشياء معينة من أنواع الموجودات تحت سلطانه لا يعدوها إلى ما هو من نطاق سلطان غيره منهم ، وذلك حال ملة القبط .

ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين حال الإله المنفرد بالإلهية والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين ليصل بذلك إلى إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى ، فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة . وليس المراد من هذا الاستدلال وجود الحالين في الإلهية والمفاضلة بين أصحاب هذين الحالين لأن المخاطبين لا يؤمنون بوجود الإله الواحد .

هذا إذا حمل لفظ { خير } على ظاهر المتعارف منه وهو التفضيل بين مشتركات في صفة . ويجوز أن يكون { خير } مستعملاً في معنى الخير عند العقل ، أي الرجحان والقبول . والمعنى : اعتقاد وجود أرباب متفرقين أرجح أم اعتقاد أنه لا يوجد إلا إله واحد ، ليستنزل بذلك طائر نظرهما واستدلالهما حتى ينجلي لهما فساد اعتقاد تعدد الآلهة ، إذ يتبين لهما أن أرباباً متفرقين لا يخلو حالهم من تطرق الفساد والخلل في تصرفهم ، كما يومىء إليه وصف التفرق بالنسبة للتعدد ووصف القهار بالنسبة للوحدانية .

وكانت ديانة القبط في سائر العصور التي حفظها التاريخ وشهدت بها الآثار ديانة شِرك ، أي تعدد الآلهة . وبالرغم على ما يحاوله بعض المؤرخين المصريين والإفرنج من إثبات اعتراف القبط بإله واحد وتأويلهم لهم تعدد الآلهة بأنها رموز للعناصر فإنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا إلا أن هذا الإله هو معطي التصرف للآلهة الأخرى . وذلك هو شأن سائر أديان الشرك ، فإن الشرك ينشأ عن مثل ذلك الخيال فيصبح تعدد آلهة . والأممُ الجاهلة تتخيل هذه الاعتقادات من تخيلات نظام ملوكها وسلاطينها وهو النظام الإقطاعي القديم .

نعم إن القبط بنوا تعدد الآلهة على تعدد القوى والعناصر وبعض الكواكب ذات القوى . ومثلهم الإغريق فهم في ذلك أحسن حالاً من مشركي العرب الذين ألّهوا الحجارة . وقصارى ما قسموه في عبادتها أن جعلوا بعضها آلهة لبعض القبائل كما قال الشاعر :

وفرّت ثقيف إلى لاتها

وأحسن حالاً من الصابئة الكلدانيين والأشوريين الذين جعلوا الآلهة رموزاً للنجوم والكواكب .

وكانت آلهة القبط نحواً من ثلاثين رباً أكبرها عندهم آمون رُعْ . ومن أعظم آلهتهم ثلاثة أخر وهي : أوزوريس ، وأزيس ، وهوروس . فللّه بلاغة القرآن إذ عبر عن تعددها بالتفرق فقال : { أأربابٌ متفرقون } [ سورة يوسف : 39 ] .