معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ مَلَكٞۖ وَلَوۡ أَنزَلۡنَا مَلَكٗا لَّقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} (8)

قوله تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه } ، على محمد صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر } ، أي : لوجب العذاب ، وفرغ من الأمر ، وهذا سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية فأنزلت ، ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب .

قوله تعالى : { ثم لا ينظرون } ، أي : لا يؤجلون ولا يمهلون . وقال قتادة : لو أنزلنا ملكاً ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب ، ولم يؤخروا طرفة عين . وقال مجاهد : { لقضي الأمر } أي لقامت القيامة ، وقال الضحاك : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ مَلَكٞۖ وَلَوۡ أَنزَلۡنَا مَلَكٗا لَّقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} (8)

بعد ذلك يحكي نموذجا من اقتراحات المشركين ، التي يمليها التمحل والعناد ، كما يمليها الجهل وسوء التصور . . ذلك إذ يقترحون أن ينزل الله - سبحانه - على الرسول [ ص ] ملكا يصاحبه في تبليغ الدعوة ؛ ويصدقه في أنه مرسل من عند الله . . ثم يبين لهم ما في هذا الاقتراح من جهل بطبيعة الملائكة ، وبسنة الله في إرسالهم ، كما يبين لهم رحمة الله بهم في أن لا يستجيب لهم فيما يقترحون :

( وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون . ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ، وللبسنا عليهم ما يلبسون ) . .

وهذا الاقتراح الذي كان المشركون يقترحونه ؛ والذي اقترحه من قبلهم أقوام كثيرون على رسلهم - كما يحكي القرآن الكريم في قصصهم - والرد القرآني عليه في هذا الموضع . . هذا وذاك يثيران جملة حقائق نلم بها هنا بقدر الإمكان :

الحقيقة الأولى : أن أولئك المشركين من العرب لم يكونوا يجحدون الله ؛ ولكنهم كانوا يريدون برهانا على ان الرسول [ ص ] مرسل من عنده ؛ وأن هذا الكتاب الذي يتلوه عليه7م منزل من عند الله حقا . ويقترحون برهانا معينا : هو أن ينزل الله عليه ملكًا يصاحبه في الدعوة ويصدق دعواه . . ولم يكن هذا إلا اقتراحا من اقتراحات كثيرة من مثله ، ورد ذكرها في القرآن في مواضع منه شتى . وذلك كالذي ورد في سورة الإسراء ، وهو يتضمن هذا الاقتراح ، واقتراحات من نوعه تدل كلها على التعنت الذي وصفته الآية السابقة ، كما تدل على الجهل بكثير من الحقائق الكونية وكثير من القيم الحقيقية : ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه . قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ؟ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشرا رسولا ؟ قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولًا ) . . . [ الإسراء : 89-95 ] .

ومن مثل هذه الاقتراحات يتبين التعنت كما تتبين الجهالة . . وإلا فقد كان لهم من خلق رسول الله [ ص ] الذي يعرفونه جيدا بالخبرة الطويلة ؛ ما يدلهم على صدقة وأمانته وهم كانوا يلقبونه الأمين ، ويودعون لديه أماناتهم حتى وهم معه على أشد الخلاف ؛ وقد هاجر [ ص ] وترك ابن عمه عليا - رضي الله عنه - يرد إلى قريش ودائعهم التي كانت ما تزال عنده ؛ وهم معه على الخلاف الذي يدبرون معه قتله ! وكذلك كان صدقه عندهم مستيقنا كأمانته ؛ فإنه لما دعاهم أول مرة دعوة جماعية جهرية على الصفا - حين أمره ربه بذلك - وسألهم : إن كانوا يصدقونه لو أنبأهم بنبأ ، أجابوه كلهم بأنه عندهم مصدق . . فلو كانوا يريدون أن يعلموا صدقه لقد كان لهم في ماضيه برهان ، ولقد كانوا يعلمون : إنه لصادق . . وسيأتي في سياق السورة خبر الله الصادق لنبيه : أنهم لا يكذبونه : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك . ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) . . فهي الرغبة في الإنكار والإعراض ؛ وهو العناد والاستكبار عن الحق . وليس أنهم يشكون في صدقه [ ص ] !

ثم لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون . فإن هذا القرآن شاهد بذاته ، بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير ، على أنه من عند الله . . وهم لم يكونوا يجحدون الله . . وهم - على وجه التأكيد - كانوا يحسون ذلك ويعرفونه . . كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية ؛ ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى - وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة . وكل من مارس فن القول يدرك إدراكا واضحا أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا ؛ لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه ! كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقاديوالمنهج الذي يتخذه لتقرير هذا الاعتقاد في الإدراك البشري ، ونوع المؤثرات واللمسات الموحية . . كلها غير معهود في طبيعة التصورات البشرية والمناهج البشرية ، والطرائق البشرية في الإداء النفسي والتعبيري أيضا . . والعرب لم يكن يخفي عليهم الشعور بهذا في قرارة نفوسهم . وأقوالهم ذاتها وأحوالهم تقرر أنهم ما كانوا يشكون في أن هذا القرآن من عند الله . .

وهكذا يبدو أن هذه الاقتراحات لم تكن طلبا للبرهان ؛ إنما كانت وسيلة من وسائل الإعنات ؛ وأسلوبا من أساليب التعنت ؛ وخطة للمماحكة والمعاندة ؛ وأنهم كانوا كما قال الله سبحانه عنهم في الآية السابقة : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ، لقال الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين ) !

والحقيقة الثانية : أن العرب كانوا يعرفون الملائكة ؛ وكانوا يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكا يدعو معه ويصدقه . . ولكنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة هذا الخلق التي لا يعلمها إلا الله ؛ وكانوا يخبطون في التيه بلا دليل في تصور هذا الخلق ؛ وفي نوع علاقته بربه ؛ ونوع علاقته بالأرض وأهلها . . وقد حكى القرآن الكريم كثيرا من ضلالات العرب وأساطير الوثنية حول الملائكة ؛ وصححها كلها لهم ليستقيم تصور من يهتدي بهذا الدين منهم ؛ وتصح معرفتهم لهذا الكون وما يعمره من خلائق . وكان الإسلام - من هذا الجانب - منهجا لتقويم العقل والشعور ، كما كان منهجا لتقويم القلب والضمير ، ومنهجا لتقويم الأوضاع والأحوال سواء . .

وحكى القرآن الكريم من أضاليل العرب ومن جهالاتهم في جاهليتهم ، أنهم كانوا يظنون أن الملائكة بنات الله ! سبحانه وتعالى عما يصفون ! وأنهم - من ثم - لهم شفاعة عند الله لا ترد ! والراجح أن بعض كبار الأصنام كانت رموزا للملائكة ! كما حكى قولهم هذا في طلبهم أن ينزل الله على رسوله ملكا ليصدقه في دعواه . .

وقد صحح لهم القرآن ضلالتهم الأولى في مواضع منه شتى . كالذي جاء في سورة النجم :

أفرأيتم اللات والعزى ؟ ومناة الثالثة الأخرى ؟ ألكم الذكر وله الأنثى ؟ تلك إذا قسمة ضيزى ! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ولقد جاءهم من ربهم الهدى . أم للإنسان ما تمنى ؟ فلله الآخرة والأولى . وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا .

كما صحح لهم ضلالتهم الثانية في تصورهم لطبيعة الملائكة في هاتين الآيتين في هذه السورة وفي مواضع أخرى كثيرة :

( وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) . .

وهذا جانب من التعريف بهذا الخلق من عباد الله . . إنهم يقترحون أن ينزل الله ملكا . ولكن سنة الله أن ينزل الملائكة - حين ينزلون إلى الأرض على قوم كذبوا برسولهم - أن ينزلوا للتدمير عليهم ، وتحقيق أمر الله فيهم بالهلاك والدمار . ولو أن الله استجاب للمشركين من العرب فأنزل ملكا ، لقضي الأمر ، وتم التدمير ، ولم ينظروا إلى مهلة بعد هذا التنزيل ! فهل هذا ما يريدون وما يقترحون ؟ وهلا يستشعرون رحمة الله في عدم إجابتهم لما يقترحون لأنفسهم من الهلاك المبين ؟ ! . . هكذا يقفهم السياق وجها لوجه أمام رحمة الله بهم وحلمه عليهم ؛ وأمام جهلهم بمصلحة أنفسهم ، وجهلهم بسنة الله في تنزيل الملائكة . . وهم بهذا الجهل الذي يكاد يدمر عليهم حياتهم ، يرفضون الهدى ويرفضون الرحمة ويتعنتون في طلب الدليل !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ مَلَكٞۖ وَلَوۡ أَنزَلۡنَا مَلَكٗا لَّقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} (8)

عطف على قوله : { ولو نزّلنا عليك كتاباً } ، لأنّ هذا خبر عن تورّكهم وعنادهم ، وما قبله بيان لعدم جدوى محاولة ما يقلع عنادهم ، فذلك فُرض بإنزال كتاب عليهم ، من السماء فيه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وهذا حكاية لاقتراح منهم آية يصدّقونه بها . وفي سيرة ابن إسحاق أنّ هذا القول واقع ، وأنّ من جملة من قال هذا زمعة بن الأسود ، والنضر بن الحارث بن كَلدة ، وعبدة بن عبد يغوث ؛ وأبَي ابن خلف ، والعاصي بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومن معهم ، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سل ربّك أن يبعث معك ملكاً يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك .

فقوله : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } أي لولا أنزل عليه ملك نشاهده ويخبرنا بصدقه ، لأنّ ذلك هو الذي يتطلّبه المعاند . أمّا نزول الملك الذي لا يرونه فهو أمر واقع ، وفسّره قوله تعالى في الآية الأخرى : { لولا أنزل إليه ملك فيكونَ معه نذيراً } في سورة الفرقان ( 7 ) .

والضمير عائد إلى { الذين كفروا } وإن كان قاله بعضهم ، لأنّ الجميع قائلون بقوله : وموافقون عليه .

و { لولا } للتحضيض بمعنى ( هلاً ) . والتحضيض مستعمل في التعجيز على حسب اعتقادهم . وضمير { عليه } للنبيء صلى الله عليه وسلم ومعاد الضمير معلوم من المقام ، لأنّه إذا جاء في الكلام ضمير غائب لم يتقدّم له معاد وكان بين ظهرانيهم من هو صاحب خبر أو قصة يتحدّث الناس بها تعيّن أنَّه المراد من الضمير . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين استأذنه في قتل ابن صيّاد : « إن يكْنه فلن تسلّط عليه وإلاّ يكْنه فلا خير لك في قتلة » . يريد من مائر الغيبة الثلاثة الأولى الدجّال لأنّ الناس كانوا يتحدّثون أنّ ابن صيّاد هو الدجّال . ومثل الضمير اسم الإشارة إذا لم يذكر في الكلام اسم يشار إليه . كما ورد في حديث أبي ذرّ أنّه قال لأخيه عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم " اذهب فاستعلم لنا علم هذا الرجل " وفي حديث سؤال القبر " فيقال له ( أي للمقبور ) : ما علمك بهذا الرجل " يعني أنّ هذا قولهم فيما بينهم ، أو قولهم للذي أرسلوه إلى النبي أن يسأل الله أن يبعث معه ملكاً . وقد شافهوه به مرة أخرى فيما حكاه الله عنهم : { وقالوا يا أيّها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين } فإنّ ( لَوْما ) أخت ( لولا ) في إفادة التحضيض .

وقوله : { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون } معناه : لو أنزلنا ملكاً على الصفة التي اقترحوها يكلّمهم لقضي الأمر ، أي أمرهم ؛ فاللام عوض عن المضاف إليه بقرينة السياق ، أي لقضي أمر عذابهم الذي يتهدَّدهم به .

ومعنى : { قُضي } تُمّم ، كما دلّ عليه قوله : { ثم لا ينظرون } ؛ ذلك أنّه لا تنزل ملائكة غير الذين سخّرهم الله للأمور المعتادة مثلِ الحفظة ، وملك الموت ، والملك الذي يأتي بالوحي ؛ إلاّ ملائكة تنزل لتأييد الرسل بالنصر على من يكذّبهم ، مثل الملائكة التي نزلت لنصر المؤمنين في بدر . ولا تنزل الملائكة بين القوم المغضوب عليهم إلاّ لإنزال العذاب بهم ، كما نزلت الملائكة في قوم لوط . فمشركو مكة لمّا سألوا النبي أن يريهم ملكاً معه ظنّوا مقترحهم تعجيزاً ، فأنبأهم الله تعالى بأنّهم اقترحوا أمراً لو أجيبوا إليه لكان سبباً في مناجزة هلاكهم الذي أمهلهم إليه فيه رحمة منه .

ولعلّ حكمة ذلك أنّ الله فطر الملائكة على الصلابة والغضب للحقّ بدون هوادة ، وجعل الفطرة الملكية سريعة لتنفيذ الجزاء على وفق العمل ، كما أشار إليه قوله تعالى : { ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى } ، فلذلك حجزهم الله عن الاتّصال بغير العباد المكرّمين الذين شابهن نفوسهم الإنسانية النفوس الملكية ، ولذلك حجبهم الله عن النزول إلى الأرض إلاّ في أحوال خاصّة ، كما قال تعالى عنهم : { وما تتنزّل إلاّ بأمر ربّك } ، وكما قال : { ما تنزّل الملائكة إلاّ بالحقّ } فلو أنّ الله أرسل ملائكة في الوسط البشري لما أمهلوا أهل الضلال والفساد ولنا جزوهم جزاء العذاب ، ألا ترى أنّ الملائكة الذين أرسلهم الله لقوم لوط لمّا لقوا لوطاً قالوا : { يا لوط إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل } . ولمّا جادلهم إبراهيم في قوم لوط بعد أن بشّروه واستأنس بهم { قالوا يا إبراهيم أعرض عن هذا إنّه قد جاء أمر ربّك } وهو نزول الملائكة ؛ فليس للملائكة تصرف في غير ما وجهّوا إليه .

فمعنى الآية أنّ ما اقترحوه لو وقع لكان سيء المغبّة عليهم من حيث لا يشعرون . وليس المراد أنّ سبب عدم إنزال الملك رحمة بهم بل لأنّ الله ما كان ليظهر آياته عن اقتراح الضاليّن ، إذ ليس الرسول صلى الله عليه وسلم بصدد التصدّي لرغبات الناس مثل ما يتصدى الصانع أو التاجرـ ولو أجيبت رغبات بعض المقترحين لرام كلّ من عُرضت عليه الدعوة أن تظهر له آية حسب مقترحه فيصير الرسول صلى الله عليه وسلم مضيّعاً مدّة الإرشاد وتلتفّ عليه الناس التفافهم على المشعوذين ، وذلك ينافي حرمة النبوة ، ولكن الآيات تأتي عن محض اختيار من الله تعالى دون مسألة . وأنّما أجاب الله اقتراح الحواريّين إنزال المائدة لأنّهم كانوا قوماً صالحين ، وما أرادوا إلاّ خيراً . ولكنّ الله أنبأهم أنّ إجابتهم لذلك لحكمة أخرى وهي تستتبع نفعاً لهم من حيث لا يشعرون ، فكانوا أحرياء بأن يشكروا نعمة الله عليهم فيما فيه استبقاء لهم لو كانوا موفّقين . وسيأتي عند قوله تعالى : { وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه قل إنّ الله قادر على أن ينزلّ آية } زيادة بيان لهذا .

ومن المفسّرين من فسّر { قضي الأمر } بمعنى هلاكهم من هول رؤية الملك في صورته الأصبية . وليس هذا بلازم لأنّهم لم يسألوا ذلك . ولا يتوقّف تحقّق ملكيّته عندهم على رؤية صورة خارقة للعادة ، بل يكفي أن يروه نازلاً من السماء مثلاً حتى يصاحب النبي صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم إلى الإسلام ، كما يدلّ عليه قوله الآتي : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } .