في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ مَلَكٞۖ وَلَوۡ أَنزَلۡنَا مَلَكٗا لَّقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} (8)

بعد ذلك يحكي نموذجا من اقتراحات المشركين ، التي يمليها التمحل والعناد ، كما يمليها الجهل وسوء التصور . . ذلك إذ يقترحون أن ينزل الله - سبحانه - على الرسول [ ص ] ملكا يصاحبه في تبليغ الدعوة ؛ ويصدقه في أنه مرسل من عند الله . . ثم يبين لهم ما في هذا الاقتراح من جهل بطبيعة الملائكة ، وبسنة الله في إرسالهم ، كما يبين لهم رحمة الله بهم في أن لا يستجيب لهم فيما يقترحون :

( وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون . ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ، وللبسنا عليهم ما يلبسون ) . .

وهذا الاقتراح الذي كان المشركون يقترحونه ؛ والذي اقترحه من قبلهم أقوام كثيرون على رسلهم - كما يحكي القرآن الكريم في قصصهم - والرد القرآني عليه في هذا الموضع . . هذا وذاك يثيران جملة حقائق نلم بها هنا بقدر الإمكان :

الحقيقة الأولى : أن أولئك المشركين من العرب لم يكونوا يجحدون الله ؛ ولكنهم كانوا يريدون برهانا على ان الرسول [ ص ] مرسل من عنده ؛ وأن هذا الكتاب الذي يتلوه عليه7م منزل من عند الله حقا . ويقترحون برهانا معينا : هو أن ينزل الله عليه ملكًا يصاحبه في الدعوة ويصدق دعواه . . ولم يكن هذا إلا اقتراحا من اقتراحات كثيرة من مثله ، ورد ذكرها في القرآن في مواضع منه شتى . وذلك كالذي ورد في سورة الإسراء ، وهو يتضمن هذا الاقتراح ، واقتراحات من نوعه تدل كلها على التعنت الذي وصفته الآية السابقة ، كما تدل على الجهل بكثير من الحقائق الكونية وكثير من القيم الحقيقية : ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه . قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ؟ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشرا رسولا ؟ قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولًا ) . . . [ الإسراء : 89-95 ] .

ومن مثل هذه الاقتراحات يتبين التعنت كما تتبين الجهالة . . وإلا فقد كان لهم من خلق رسول الله [ ص ] الذي يعرفونه جيدا بالخبرة الطويلة ؛ ما يدلهم على صدقة وأمانته وهم كانوا يلقبونه الأمين ، ويودعون لديه أماناتهم حتى وهم معه على أشد الخلاف ؛ وقد هاجر [ ص ] وترك ابن عمه عليا - رضي الله عنه - يرد إلى قريش ودائعهم التي كانت ما تزال عنده ؛ وهم معه على الخلاف الذي يدبرون معه قتله ! وكذلك كان صدقه عندهم مستيقنا كأمانته ؛ فإنه لما دعاهم أول مرة دعوة جماعية جهرية على الصفا - حين أمره ربه بذلك - وسألهم : إن كانوا يصدقونه لو أنبأهم بنبأ ، أجابوه كلهم بأنه عندهم مصدق . . فلو كانوا يريدون أن يعلموا صدقه لقد كان لهم في ماضيه برهان ، ولقد كانوا يعلمون : إنه لصادق . . وسيأتي في سياق السورة خبر الله الصادق لنبيه : أنهم لا يكذبونه : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك . ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) . . فهي الرغبة في الإنكار والإعراض ؛ وهو العناد والاستكبار عن الحق . وليس أنهم يشكون في صدقه [ ص ] !

ثم لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون . فإن هذا القرآن شاهد بذاته ، بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير ، على أنه من عند الله . . وهم لم يكونوا يجحدون الله . . وهم - على وجه التأكيد - كانوا يحسون ذلك ويعرفونه . . كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية ؛ ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى - وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة . وكل من مارس فن القول يدرك إدراكا واضحا أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا ؛ لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه ! كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقاديوالمنهج الذي يتخذه لتقرير هذا الاعتقاد في الإدراك البشري ، ونوع المؤثرات واللمسات الموحية . . كلها غير معهود في طبيعة التصورات البشرية والمناهج البشرية ، والطرائق البشرية في الإداء النفسي والتعبيري أيضا . . والعرب لم يكن يخفي عليهم الشعور بهذا في قرارة نفوسهم . وأقوالهم ذاتها وأحوالهم تقرر أنهم ما كانوا يشكون في أن هذا القرآن من عند الله . .

وهكذا يبدو أن هذه الاقتراحات لم تكن طلبا للبرهان ؛ إنما كانت وسيلة من وسائل الإعنات ؛ وأسلوبا من أساليب التعنت ؛ وخطة للمماحكة والمعاندة ؛ وأنهم كانوا كما قال الله سبحانه عنهم في الآية السابقة : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ، لقال الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين ) !

والحقيقة الثانية : أن العرب كانوا يعرفون الملائكة ؛ وكانوا يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكا يدعو معه ويصدقه . . ولكنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة هذا الخلق التي لا يعلمها إلا الله ؛ وكانوا يخبطون في التيه بلا دليل في تصور هذا الخلق ؛ وفي نوع علاقته بربه ؛ ونوع علاقته بالأرض وأهلها . . وقد حكى القرآن الكريم كثيرا من ضلالات العرب وأساطير الوثنية حول الملائكة ؛ وصححها كلها لهم ليستقيم تصور من يهتدي بهذا الدين منهم ؛ وتصح معرفتهم لهذا الكون وما يعمره من خلائق . وكان الإسلام - من هذا الجانب - منهجا لتقويم العقل والشعور ، كما كان منهجا لتقويم القلب والضمير ، ومنهجا لتقويم الأوضاع والأحوال سواء . .

وحكى القرآن الكريم من أضاليل العرب ومن جهالاتهم في جاهليتهم ، أنهم كانوا يظنون أن الملائكة بنات الله ! سبحانه وتعالى عما يصفون ! وأنهم - من ثم - لهم شفاعة عند الله لا ترد ! والراجح أن بعض كبار الأصنام كانت رموزا للملائكة ! كما حكى قولهم هذا في طلبهم أن ينزل الله على رسوله ملكا ليصدقه في دعواه . .

وقد صحح لهم القرآن ضلالتهم الأولى في مواضع منه شتى . كالذي جاء في سورة النجم :

أفرأيتم اللات والعزى ؟ ومناة الثالثة الأخرى ؟ ألكم الذكر وله الأنثى ؟ تلك إذا قسمة ضيزى ! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ولقد جاءهم من ربهم الهدى . أم للإنسان ما تمنى ؟ فلله الآخرة والأولى . وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا .

كما صحح لهم ضلالتهم الثانية في تصورهم لطبيعة الملائكة في هاتين الآيتين في هذه السورة وفي مواضع أخرى كثيرة :

( وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) . .

وهذا جانب من التعريف بهذا الخلق من عباد الله . . إنهم يقترحون أن ينزل الله ملكا . ولكن سنة الله أن ينزل الملائكة - حين ينزلون إلى الأرض على قوم كذبوا برسولهم - أن ينزلوا للتدمير عليهم ، وتحقيق أمر الله فيهم بالهلاك والدمار . ولو أن الله استجاب للمشركين من العرب فأنزل ملكا ، لقضي الأمر ، وتم التدمير ، ولم ينظروا إلى مهلة بعد هذا التنزيل ! فهل هذا ما يريدون وما يقترحون ؟ وهلا يستشعرون رحمة الله في عدم إجابتهم لما يقترحون لأنفسهم من الهلاك المبين ؟ ! . . هكذا يقفهم السياق وجها لوجه أمام رحمة الله بهم وحلمه عليهم ؛ وأمام جهلهم بمصلحة أنفسهم ، وجهلهم بسنة الله في تنزيل الملائكة . . وهم بهذا الجهل الذي يكاد يدمر عليهم حياتهم ، يرفضون الهدى ويرفضون الرحمة ويتعنتون في طلب الدليل !