اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ مَلَكٞۖ وَلَوۡ أَنزَلۡنَا مَلَكٗا لَّقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} (8)

وهذه شبهةٌ ثالثةٌ{[13275]} من شُبَهِ مُنْكِري النُّبوة ، فإنهم يقولون : لو بَعَثَ اللَّهُ إلى الخَلْق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرَّسُولُ من الملائكة ؛ لأن الملك أكثرُ عِلْماً وأشدُّ قُدْرَةً ومَهَابَةً ، والشَّكُّ في رسالته قَلِيلٌ ، والحكيم إذا أراد تحصيل مُهِمٍّ ، فإنما يَسْتَعِينُ في تحصيله بمَنْ هو أقْدَرُ على تحصيله ، وإذا كان وقوع الشُّبُهَاتِ في نُبُوَّةِ الملائكة أقَلَّ وَجَبَ إن بعث اللهُ رسولاً إلى الخلق أنْ يكون ذلك الرَّسُولُ من الملائكة .

قوله : " وقالوا : لولا " الظَّاهِرُ أنَّ هذه الجملة مُسْتَأنَفَةٌ سيقَتْ للإخبار عنهم لفَرْطِ تعنُّتِهم وتَصَلُّبِهِم في كُفْرهم .

قيل : ويجوز أن تكون مَعْطُوفة على جواب " لو " ، أي : لو نزَّلْنَا عليك كتاباً لَقَالُوا كذا وكذا ، ولقالوا : لو أُنزِل عليه مَلَكٌ .

وجيء بالجواب على أحد الجائزين ، أعني حذف " اللام " من المثبت ، وفيه بُعْد ؛ لأن قولهم " لولا نُزِّلَ " ليس مُتَرَتِّباً على قوله : " لولا نَزَّلْنَا " و " لولا " هنا تحضيضِيَّةٌ ، والضميرُ في " عَلَيْه " الظَّاهرُ عَوْدُهُ على النبي صلى الله عليه وسلم .

وقيل : يجوز أن يَعُودَ على الكتاب أو القِرْطَاسِ .

والمعنى : لولا أنْزِلَ مع الكتاب مَلَكٌ يشهدُ بِصحَّتِهِ ، كما يُرْوَى في القِصَّةِ أنه قيل له : لن نؤمن لك حتى تَعْرُج{[13276]} فتأتي بكتاب ، ومعه أربعة ملائكة يشهدون ، فهذا يَظْهَرُ على رأي من يقول : إنَّ الجملة من قوله : " وقالوا : لولا أنْزِلَ " معطوفةٌ على جواب " لوا " ، فإنَّهُ يتعلّق به من حيث المعنى حينئذٍ .

فصل في دحض شبهة منكري النبوة

واعلم أنَّ الله -تبارك وتعالى- أجاب عن هذه الشُّبْهَةِ بوجهين :

أحدهما : قوله : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ } ومعنى القضاء : الإتمام والإلزام ، والمعنى : ولو أنزلنا ملكاً لم يؤمنوا ، وإذا لم يؤمنوا اسْتُؤصِلُوا بالعذاب ، وهذه سُنَّةُ اللَّهِ تعالى في الكُفَّار .

والوجه الثاني : أنَّهم إذا شاهدوا الملك زَهَقَتْ أرْوَاحُهُمْ من هَوْل ما يشاهدون ؛ لأنَّ الآدمي إذا رأى الملك ، فإمَّا أنْ يراه على صورتِهِ الأصْلِيَّةِ ، أو على صورة البَشَرِ ، فإن رآه على صورته الأصليَّةِ غُشِيَ عليه ، وإنْ رآه على صورة البَشَرِ ، فحينئذ يكونُ المَرْئيُّ شخصاً على صورة البشر وذلك لا يتفاوت الحال فيه ، سواء كان هو ملكاً أو بشراً ، ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط ، وخصَّهم دَاوُد وجبريل حيثُ تَخَيَّل لمريم بَشَراً سَوِياً .

واعلم أنَّ عدم إرسال الملك فيه مصالح :

أحدها : أن رؤية إنزال الملكِ على البشرِ آية قاهرةٌ{[13277]} فبتقدير نزوله على الكُفَّارِ ، فرُبَّما لم يؤمنوا ، كما قال الله تبارك وتعالى

{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَة } إلى قوله : { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ } [ الأنعام :111 ] ، وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهُمْ بعذاب الاسْتِئصَالِ{[13278]} .

وثانيها : ما ذكرنا من عَدَمِ قُدْرِتِهِمْ على رؤية الملائكة .

وثالثها : إنَّ إنزال الملك معجزةٌ قاهِرةٌ جاريةٌ مجرى الإلْجْاءِ ، وإزالة الاختيار ، وذلك يخلُّ بمصلحة التكليف .

ورابعها : أنَّ إنزال الملَكِ وإن كان يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ من الوجوه المذكورة ، لكنَّهُ يُقوِّي الشُّبْهَةَ من هذه الوجوه{[13279]} .

والمراد من قوله تعالى : { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } فالفائدة في " ثم " التنبيه على أنَّ عَدَمَ الإنظار أشدُّ من مُضِيَّ الأمر ؛ لأن المُفَاجَئَةَ أشَدُّ من نفس الشدة .

قال قتادة : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً } ثمَّ لم يؤمنوا لعُجِّلَ لهم العذاب ولم يُؤخَّرْ طَرْفَةَ عَيْنٍ .

وقال مجاهد : " لقضي الأمر " ، أي : لقامت القيامة{[13280]} .

وقال الضحَّاك : لو أتاهم ملكٌ في صورته لماتوا{[13281]} .


[13275]:في ب: ثانية.
[13276]:في ب: تفجر، وعليه تكون آية الإسراء.
[13277]:في أ: ظاهرة وفي الرازي 12/134 باهرة.
[13278]:ينظر: الرازي 12/134.
[13279]:ينظر: الرازي 12/134.
[13280]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/151) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/8) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.
[13281]:أخرجه الطبري (5/152) من طريق الضحاك عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/9) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.