وهذه شبهةٌ ثالثةٌ{[13275]} من شُبَهِ مُنْكِري النُّبوة ، فإنهم يقولون : لو بَعَثَ اللَّهُ إلى الخَلْق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرَّسُولُ من الملائكة ؛ لأن الملك أكثرُ عِلْماً وأشدُّ قُدْرَةً ومَهَابَةً ، والشَّكُّ في رسالته قَلِيلٌ ، والحكيم إذا أراد تحصيل مُهِمٍّ ، فإنما يَسْتَعِينُ في تحصيله بمَنْ هو أقْدَرُ على تحصيله ، وإذا كان وقوع الشُّبُهَاتِ في نُبُوَّةِ الملائكة أقَلَّ وَجَبَ إن بعث اللهُ رسولاً إلى الخلق أنْ يكون ذلك الرَّسُولُ من الملائكة .
قوله : " وقالوا : لولا " الظَّاهِرُ أنَّ هذه الجملة مُسْتَأنَفَةٌ سيقَتْ للإخبار عنهم لفَرْطِ تعنُّتِهم وتَصَلُّبِهِم في كُفْرهم .
قيل : ويجوز أن تكون مَعْطُوفة على جواب " لو " ، أي : لو نزَّلْنَا عليك كتاباً لَقَالُوا كذا وكذا ، ولقالوا : لو أُنزِل عليه مَلَكٌ .
وجيء بالجواب على أحد الجائزين ، أعني حذف " اللام " من المثبت ، وفيه بُعْد ؛ لأن قولهم " لولا نُزِّلَ " ليس مُتَرَتِّباً على قوله : " لولا نَزَّلْنَا " و " لولا " هنا تحضيضِيَّةٌ ، والضميرُ في " عَلَيْه " الظَّاهرُ عَوْدُهُ على النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : يجوز أن يَعُودَ على الكتاب أو القِرْطَاسِ .
والمعنى : لولا أنْزِلَ مع الكتاب مَلَكٌ يشهدُ بِصحَّتِهِ ، كما يُرْوَى في القِصَّةِ أنه قيل له : لن نؤمن لك حتى تَعْرُج{[13276]} فتأتي بكتاب ، ومعه أربعة ملائكة يشهدون ، فهذا يَظْهَرُ على رأي من يقول : إنَّ الجملة من قوله : " وقالوا : لولا أنْزِلَ " معطوفةٌ على جواب " لوا " ، فإنَّهُ يتعلّق به من حيث المعنى حينئذٍ .
واعلم أنَّ الله -تبارك وتعالى- أجاب عن هذه الشُّبْهَةِ بوجهين :
أحدهما : قوله : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ } ومعنى القضاء : الإتمام والإلزام ، والمعنى : ولو أنزلنا ملكاً لم يؤمنوا ، وإذا لم يؤمنوا اسْتُؤصِلُوا بالعذاب ، وهذه سُنَّةُ اللَّهِ تعالى في الكُفَّار .
والوجه الثاني : أنَّهم إذا شاهدوا الملك زَهَقَتْ أرْوَاحُهُمْ من هَوْل ما يشاهدون ؛ لأنَّ الآدمي إذا رأى الملك ، فإمَّا أنْ يراه على صورتِهِ الأصْلِيَّةِ ، أو على صورة البَشَرِ ، فإن رآه على صورته الأصليَّةِ غُشِيَ عليه ، وإنْ رآه على صورة البَشَرِ ، فحينئذ يكونُ المَرْئيُّ شخصاً على صورة البشر وذلك لا يتفاوت الحال فيه ، سواء كان هو ملكاً أو بشراً ، ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط ، وخصَّهم دَاوُد وجبريل حيثُ تَخَيَّل لمريم بَشَراً سَوِياً .
واعلم أنَّ عدم إرسال الملك فيه مصالح :
أحدها : أن رؤية إنزال الملكِ على البشرِ آية قاهرةٌ{[13277]} فبتقدير نزوله على الكُفَّارِ ، فرُبَّما لم يؤمنوا ، كما قال الله تبارك وتعالى
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَة } إلى قوله : { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ } [ الأنعام :111 ] ، وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهُمْ بعذاب الاسْتِئصَالِ{[13278]} .
وثانيها : ما ذكرنا من عَدَمِ قُدْرِتِهِمْ على رؤية الملائكة .
وثالثها : إنَّ إنزال الملك معجزةٌ قاهِرةٌ جاريةٌ مجرى الإلْجْاءِ ، وإزالة الاختيار ، وذلك يخلُّ بمصلحة التكليف .
ورابعها : أنَّ إنزال الملَكِ وإن كان يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ من الوجوه المذكورة ، لكنَّهُ يُقوِّي الشُّبْهَةَ من هذه الوجوه{[13279]} .
والمراد من قوله تعالى : { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } فالفائدة في " ثم " التنبيه على أنَّ عَدَمَ الإنظار أشدُّ من مُضِيَّ الأمر ؛ لأن المُفَاجَئَةَ أشَدُّ من نفس الشدة .
قال قتادة : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً } ثمَّ لم يؤمنوا لعُجِّلَ لهم العذاب ولم يُؤخَّرْ طَرْفَةَ عَيْنٍ .
وقال مجاهد : " لقضي الأمر " ، أي : لقامت القيامة{[13280]} .
وقال الضحَّاك : لو أتاهم ملكٌ في صورته لماتوا{[13281]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.