معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗاۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ قَدۡ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكُمۡ ذِكۡرٗا} (10)

{ أعد الله لهم عذاباً شديداً فاتقوا الله يا أولي الألباب* الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكراً } يعني القرآن .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗاۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ قَدۡ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكُمۡ ذِكۡرٗا} (10)

ثم تأخير صورة هذه العاقبة الخاسرة في الآية التالية : ( أعد الله لهم عذابا شديدا ) . . كل هذا لإطالة المشهد وتفصيل خطواته ومراحله . وهي طريقة من طرق الأسلوب القرآني في تعميق الأثر في الحس وإطالة مكثه في الأعصاب .

ونقف لحظة أمام هذا التحذير فنرى أن الله أخذ القرى واحدة بعد واحدة كلما عتت عن أمر ربها ورسله . . ونجد أن هذا التحذير يساق هنا بمناسبة الطلاق وأحكامه ، فيرتبط الطلاق وحكمه بهذه السنة الكلية . ويوحي هذا الارتباط أن أمر الطلاق ليس أمر أسر أو أزواج . إنما هو أمر الأمة المسلمة كلها . فهي المسؤولة عن هذا الأمر . وهي المسؤولة فيه عن شريعة الله . ومخالفتها عن أمر الله فيه - أو مخالفتها عن أمر الله في غيره من أحكام هذا النظام ، أو هذا المنهج الإلهي المتكامل للحياة - هي عتو عن أمر الله ، لا يؤاخذ به الأفراد الذين يرتكبونه ، إنما تؤاخذ به القرية أو الأمة التي تقع فيها المخالفة ، والتي تنحرف في تنظيم حياتها عن نهج الله وأمره . فقد جاء هذا الدين ليطاع ، ولينفذ كله ، وليهيمن على الحياة كلها . فمن عتا عن أمر الله فيه - ولو كان هذا في أحوال الأفراد الشخصية - فقد تعرض لما تعرضت له القرى من سنة الله التي لا تتخلف أبدا .

وتلك القرى ذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا . . ذاقته في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير . ولقد ذاقت هذا الوبال قرى وأمم وشعوب عتت عن منهج الله في الأرض . ونحن نشهد وأسلافنا شهدوا هذا الوبال . ذاقته فسادا وانحلالا ، وفقرا وقحطا ، وظلما وجورا ، وحياة مفزعة لا أمن فيها ولا سلام ، ولا طمأنينة فيها ولا استقرار . وفي كل يوم نرى مصداق هذا النذير !

وذلك فوق العذاب الشديد الذي ينتظر العتاة عن أمر الله ونهجه في الحياة حيث يقول الله : ( أعد الله لهم عذابا شديدا ) . . والله أصدق القائلين .

إن هذا الدين منهج نظام جماعي - كما أسلفنا الحديث في سورة الصف - جاء لينشىء جماعة مسلمة ذات نظام خاص . وجاء ليصرف حياة هذه الجماعة كلها . ومن ثم فالجماعة كلها مسؤولة عنه ، مسؤولة عن أحكامه . ولن تخالف عن هذه الأحكام حتى يحق عليها هذا النذير الذي حق على القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله .

وفي مواجهة هذا الإنذار ومشاهده الطويلة يهتف بأولي الألباب الذين آمنوا . الذين هدتهم ألبابهم إلى الإيمان . يهتف بهم ليتقوا الله الذي أنزل لهم الذكر : ( قد أنزل الله إليكم ذكرا ) . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗاۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ قَدۡ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكُمۡ ذِكۡرٗا} (10)

وعاقبة الأمر : آخره وأثره . وهو يشمل العاقبة في الدنيا والآخرة كما دل عليه قوله : { أعد الله لهم عذاباً شديداً } .

وشبهت عاقبتهم السّوأى بخسارة التاجر في بيعه في أنهم لما عتوا حسبوا أنهم أرضَوْا أنفسهم بإعْراضهم عن الرسل وانتصروا عليهم فلما لبثوا أن صاروا بمذلة وكما يخسر التاجر في تجره .

وجيء بفعل { كان } بصيغة المضي لأن الحديث عن عاقبتها في الدنيا تغليباً . وفي كل ذلك تفظيع لما لحقهم مبالغة في التحذير مما وقعوا فيه .

وجملة { أعد الله لهم عذاباً شديداً } بدل اشتمال من جملة { وكان عاقبة أمرها خسراً } أو بدلَ بعض من كل .

والمراد عذاب الآخرة لأن الإِعداد التهيئة وإنما يهيَّأ الشيء الذي لم يحصل .

وإن جعلتَ الحساب والعذاب المذكورين آنفاً حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفاً فجملة { أعد الله لهم عذاباً شديداً } استئنافاً لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } [ النبأ : 30 ] .

{ فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين ءامنوا }

هذا التفريع المقصود على التكاليف السابقة وخاصة على قوله : { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين } [ الطلاق : 1 ] وهو نتيجة ما مهّد له به من قوله : { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } .

وفي نداء المؤمنين بوصف { أولي الألباب } إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني ، ولأن فوائدها حقيقية دائمة ، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس : 62 ، 63 ] ، وقوله : { أولي } معناه ذوي ، وتقدم بيانه عند قوله : { واللائي يئسن من المحيض } [ الطلاق : 4 ] آنفاً و { الذين آمنوا } بدل من { أولي الألباب } . وهذا الاتباع يومىء إلى أن قبولهم الإِيمان عنوان على رجاحة عقولهم . والإتيان بصلة الموصول إشعار بأن الإِيمان سبب للتقوى وجامع لمعظمها ولكن للتقوى درجات هي التي أمروا بأن يحيطوا بها .

{ قد أنزل الله إليكم ذكرا } .

في هذه الجملة معنى العلة للأمر بالتقوى لأن إنزال الكتاب نفع عظيم لهم مستحق شكرهم عليه .

وتأكيد الخبر ب { قد } للاهتمام به وبعث النفوس على تصفح هذا الكتاب ومتابعة إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم .

والذكر : القرآن . وقد سمي بالذكر في آيات كثيرة لأنه يتضمن تذكير الناس بما هم في غفلة عنه من دلائل التوحيد وما يتفرع عنها من حسن السلوك ، ثم تذكيرهم بما تضمنه من التكاليف وبيناه عند قوله تعالى : { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } في سورة [ الحجر : 6 ] . وإنزال القرآن تبليغه إلى الرسول بواسطة الملك واستعير له الإِنزال لأن الذكر مشبه بالشيء المرفوع في السماوات ، كما تقدم في سورة الحجر وفي آيات كثيرة .

وجعل إنزال الذكر إلى المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به وعملوا بما فيه فخصصوا هنا من بين جميع الأمم لأن القرآن أنزل إلى الناس كلهم .

وقوله : { رسولاً } بدل من { ذكراً } بدل اشتمال لأن بين القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ملازمةً وملابسةً فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه ، فقد أُعمل فعل { أنزل } في { رسولاً } تبعاً لإِعماله في المبدل منه باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر . وهذا كما أبدل { رسول من الله } [ البينة : 2 ] من قوله : { حتى تأتيهم البينة } في سورة البينة ( 1 ) .

والرسول : هو محمد .

وأما تفسير الذكر بجبريل ، وهو مروي عن الكلبي لتصحيح إبدال رسولاً } منه ففيه تكلفات لا داعي إليها فإنه لا محيص عن اعتبار بدل الاشتمال ، ولا يستقيم وصف جبريل بأنه يتلو على الناس الآيات فإن معنى التلاوة بعيد من ذلك ، وكذلك تفسير الذكر بجبريل .