معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا} (16)

{ بل تؤثرون } قرأ أبو عمرو ، ويعقوب : يؤثرون بالياء ، يعني : الأشقين الذين ذكروا ، وقرأ الآخرون بالتاء ، دليله : قراءة أبي بن كعب { بل أنتم تؤثرون } . { الحياة الدنيا . }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا} (16)

وفي ظل هذا المشهد . مشهد النار الكبرى للأشقى . والنجاة والفلاح لمن تزكى ، يعود بالمخاطبين إلى علة شقائهم ، ومنشأ غفلتهم ، وما يصرفهم عن التذكر والتطهر والنجاة والفلاح ، ويذهب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى :

( بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى ) . .

إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى . فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى ؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها . وهم يريدون الدنيا ، ويؤثرونها . .

وتسميتها( الدنيا )لا تجيء مصادفة . فهي الواطية الهابطة - إلى جانب أنها الدانية : العاجلة :

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا} (16)

قرأ الجمهور { تؤثرون } بمثناة فوقية بصيغة الخطاب ، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات ، وقرأه أبو عمرو وحدَه بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائداً إلى { الأشقى الذي يصلى النار الكبرى } [ الأعلى : 11 ، 12 ] .

وحرف { بَل } معناه الجامع هو الإضراب ، أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد { بل } ؛ فهو إذا عَطَف المفردات كان الإضراب إبطالاً للمعطوف عليه : لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم . وإذا عطفَ الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين ، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى : { أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق } [ المؤمنون : 70 ] فهو انصراف في الحُكم ، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى : { ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا } [ المؤمنون : 62 ، 63 ] . فتكون { بل } بمنزلة قولهم « دع هذا » فهذا انصراف قولي . ويعرف أحد الإضرابين بالقرائن والسياق .

و { بل } هنا عاطفة جملة عطفاً صُورياً فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها ، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشْقَون بأنَّ السبب إيثارهم الحياة الدنيا ، وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر ، وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة .

ويجوز أن يكون الإضراب إبطالاً لما تضمنه قوله : { قد أفلح من تزكى } [ الأعلى : 14 ] من التعريض للذين شَقُوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكّون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح .

والمعنى : أنهم بُعداء عن أن يظنّ بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة الدنيا ، فالمعنى : بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة ، وهذا كما يقول الناصح شخصاً يظن أنه لا ينتصح « لقد نصحتك وما أظنك تفعل » .

ويجيء فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين .

والإِيثار : اختيار شيء من بين متعدد .

والمعنى : تؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم .

ولم يُذكر المؤثَر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه ، أي لا تتأملون فيما عدَا حياتكم هذه ولا تتأمّلون في حياة ثانية ، فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكِّروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يُعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ .

واعلم أنّ للمؤمنين حظاً من هذه الموعظة على طول الدهر ، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرِّط فيه أحدهم مما ينجيه في الآخرة إيثاراً لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تَبِعةً في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة ، فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك مَيدانٌ للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى : { وابتغ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] .