قوله تعالى : { وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون } ، كفعل آل فرعون وصنيعهم ، وعادتهم ، معناه : أن عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون . قال ابن عباس : هو أن آل فرعون أيقنوا أن موسى نبي من الله فكذبوه ، كذلك هؤلاء جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالصدق فكذبوه ، فأنزل الله بهم عقوبة كما أنزل بآل فرعون .
قوله تعالى : { والذين من قبلهم } ، كعادة الذين من قبلهم .
قوله تعالى : { كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب } .
وننتقل من هذه الوقفة الخاطفة ، مع السياق في انتقاله إلى تقرير الحقيقة الكلية وراء هذا المشهد . . إن أخذ الذين كفروا بالمهانة والعذاب ، سنة ماضية لا تتخلف ولا تتبدل ؛ فهذا هو المصير المحتوم الذي جرت به السنة من قديم :
( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ؛ كفروا بآيات الله ، فأخذهم الله بذنوبهم ، إن الله قوي شديد العقاب ) . .
إن الله - سبحانه - لا يكل الناس إلى فلتات عابرة ، ولا إلى جزاف لا ضابط له . . إنما هي سنته يمضي بها قدره . . وما أصاب المشركين في يوم بدر ، هو ما يصيب المشركين في كل وقت ؛ وقد أصاب آل فرعون والذين من قبلهم :
( كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم ) . .
يقول تعالى : فعل هؤلاء المشركون المكذبون{[13089]} بما أرسلت به يا محمد ، كما فعل الأمم المكذبة قبلهم ، ففعلنا بهم ما هو دأبنا ، أي : عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل ، الكافرين بآيات الله . { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } [ أي : بسبب ذنوبهم أهلكهم ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ]{[13090]} { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب .
وقوله { كدأب آل فرعون } الآية ، الدأب : العادة في كلام العرب ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كدأبك من أم الحويرث قبلها*** وجارتها أم الرباب بمأسل{[5413]}
ويروى كدينك ، ومنه قول خراش بن زهير العامري :
فما زال ذاك الدأب حتى تخاذلت*** هوازن وارفضَّت سليم وعامر
وهو مأخوذ من دأب على العمل إذا لزمه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ، لصاحب الجميل الذي هش إليه وأقبل نحوه وقد ذل ودمعت عيناه : «إنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه{[5414]} » فكأن العادة ُدؤوب ما .
وقال جابر بن زيد وعامر الشعبي ومجاهد وعطاء : المعنى كسنن آل فرعون ، ويحتمل أن يراد كعادة آل فرعون وغيرهم ، فتكون عادة الأمم بجملتها لا على انفراد أمة ، إذ آل فرعون لم يكفروا وأهلكوا مراراً بل لكل أمة مرة واحدة ، ويحتمل أن يكون المراد كعادة الله فيهم ، فأضاف العادة إليهم إذ لهم نسبة إليها يضاف المصدر إلى الفاعل وإلى المفعول ، والكاف من قوله { كدأب } يجوز أن يتعلق بقوله { وذوقوا } وفيه بعد ، والكاف على هذا في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، ويجوز أن تتعلق بقوله { قدمت أيديكم } وموضعها أيضاً على هذا نصب كما تقدم ، ويجوز أن يكون معنى الكلام الأمر مثل دأب آل فرعون فتكون الكاف في موضع خبر الابتداء ، وقوله { فأخذهم } معناه أهلكهم وأتى عليهم بقرينة قوله { بذنوبهم } ثم ابتدأ الإخبار بقوة الله تعالى وشدة عقابه .
{ كدأب } خبر مبتدأ محذوف ، وهو حذف تابع للاستعمال في مثله ، فإنّ العرب إذا تَحَدَّثوا عن شيء ثم أتَوا بخبر دون مبتدأ عُلم أنّ المبتدأ محذوف ، فقُدّر بما يدل عليه الكلام السابق .
فالتقدير هنا : دأبُهم كدَأب آلِ فرعون والذين من قبلهم ، أي من الأمم المكذّبين برسل ربّهم ، مثل عاد وثمود .
والدأب : العادة والسيرة المألوفة ، وقد تقدّم مثله في سورة آل عمران . وتقدّم وجه تخصيص آل فرعون بالذكر . ولا فرق بين الآيتين إلاّ اختلاف العبارة ، ففي سورة [ آل عمران : 11 ] { كذبوا بآياتنا } وهنا { كفروا بآيات الله } ، وهنالك { والله شديد العقاب } [ آل عمران : 11 ] وهنا { إن الله قوي شديد العقاب } .
فأمّا المخالفة بين { كذبوا } [ آل عمران : 11 ] و { كفروا } فلأنَّ قوم فرعون والذين من قبلهم شاركوا المشركين في الكفر بالله وتكذيب رسله ، وفي جحد دلالة الآيات على الوحدانية وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فذُكِروا هنا ابتداء بالأفظع من الأمرين فعبّر بالكفر بالآيات عن جحد الآيات الدالّة على وحدانية الله تعالى ، لأنّ الكفر أصرح في إنكار صفات الله تعالى . وقد عقبت هذه الآية بالتي بعدها ، فذكر في التي بعدها التكذيب بالآيات ، أي التكذيب بآيات صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وجَحد الآيات الدالّة على صدقه . فأمّا في سورة آل عمران [ 11 ] فقد ذكر تكذيبهم بالآيات ، أي الدالّة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنّ التكذيب متبادر في معنى تكذيب المخبِر ، لوقوع ذلك عقب ذكر تنزيل القرآن وتصديق من صدق به ، وإلحاد من قصد الفتنة بمتشابهه ، فعبّر عن الذين شابَهوهم في تكذيب رسولهم بوصف التكذيب .
فأمّا الإظهار هنا في مقام الإضمار ، فاقتضاه أنّ الكفر كفر بما يرجع إلى صفات الله فأضيفت الآيات إلى اسم الجلالة ؛ ليدلّ على الذات بعنوان الإله الحَقّ وهو الوحدانية .
وأمّا الإضمار في آل عمران فلكون التكذيب تكذيباً لآيات دالّة على ثبوت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فأضيفت الآيات إلى الضمير على الأصل في التكلّم .
وأمّا الاختلاف بذكر حرف التأكيد هنا ، دونه في سورة آل عمران [ 11 ] ، فلأنّه قصد هنا التعريض بالمشركين ، وكانوا ينكرون قوّة الله عليهم ، بمعنى لازمها ، وهو إنزال الضرّ بهم ، وينكرون أنّه شديد العقاب لهم ، فأكّد الخبر باعتبار لازمه التعريضي الذي هو إبلاغ هذا الإنذار إلى من بقي من المشركين ، وفي سورة آل عمران [ 11 ] لم يقصد إلا الإخبار عن كون الله شديد العقاب إذا عاقب ، فهو تذكير للمسلمين وهم المقصود بالإخبار بقرينة قوله ، عقِبَه : { قل للذين كفروا ستغلبون } [ آل عمران : 12 ] الآية .
وزيد وصفُ « قوي » هنا مبالغة في تهديد المشركين المقصودين بالإنذار والتهديد . والقوي الموصوف بالقوة ، وحقيقتها كمال صلابة الأعضاء لأداء الأعمال التي تراد منها ، وهي متفاوتة مقول عليها بالتشكيك .
وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فخذها بقوة } [ الأعراف : 145 ] . وهي إذا وصف الله بها مستعملة في معناها اللزومي وهي منتهى القدرة على فعل ما تتعلّق به إرادته تعالى من المُمْكنات . والمقصود من ذكر هذين الوصفين : الإيماء إلى أنّ أخذهم كان قوياً شديداً ، لأنّه عقابُ قوي شديد العقاب ، كقوله : { فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر } [ القمر : 42 ] ، وقوله : { إن أخذه أليم شديد } [ هود : 102 ] .