التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيّٞ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (52)

ثم بين سبحانه - أن هؤلاء الكافرين عادتهم في كفرهم وطغيانهم كعادة من سبقهم من الأمم الظاملة وإن من سنة الله - تعالى - في خلقه ألا يعاقب إلا بذنب ، وألا يغير النعمة إلا لسبب . فقال - تعالى - : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ . . . كَانُواْ ظَالِمِينَ } .

والكاف في قوله : { كَدَأْبِ } ، للتشبيه ، والجار والمجرور في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف .

والدأب : أصله الدوام والاستمرار ، يقال : دأب فلان على كذا يدأب دأباً - بفتح الهمزة - ودأباً - بسكونها - ودؤوباً ، إذا دوام عليها وجد فيها ، ثم غلب استعماله في الحال والشأن والعادة ، لأن الذي يستمر في عمل أمدا طويلا يصير هذا العمل عادة من عاداته ، وحالا من أحواله ، فهو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم .

والآل - كما يقول الراغب - مقلوب عن الأهل ، ويصغر على أهيل ، إلا أنه خص بالإِضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة يقال : آل فلان ، ولا يقال : آل رجل ، ولا يقال : آل الحجام . . بل يضاف إلى الأشرف والأفضل يقال : آل الله ، وآل السلطان ، والأهل يضاف إلى الكل ، فيقال : أهل الله ، وأهل الحجام ، وأهل زمان كذا . .

والمقصود بآل فرعون : هو وأعوانه وبطانته ، لأن الآل يطلق على أشد الناس التصاقا واختصاص بالمضاف إليه .

والمعنى : شأن هؤلاء الكافرين الذين حاربوك يا محمد ، والذين هلك منهم من هلك في بدر ، شأنهم وحالهم وعادتهم فيما اقترفوه من الكفر والعصيان وفيما فعل بهم من عذاب وخذلان ، كشأن آل فرعون الذين استحبوا العمى على الهدى ، والذين زينوا له الكفر والطغيان حتى صار عادته له ولهم ، وقد أخذهم - سبحانه - أخذ عزيز مقتدر ، بسبب كفرهم وفجورهم .

وقد خص - سبحانه - فرعون وآله بالذكر من بين الأمم الكافرة ، لأن فرعون كان أشد الطغاة طغيانا ، وأكثرهم غرورا وبطرا ، وأكثرهم في الاستهانة بقومه وفى الاحتقار لعقولهم وكيانهم .

ألم يقل لهم - كما حكى القرآن عنه - { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } وألم يبلغ به غروره أن يقول لهم : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أما آله وبطانته وأعوانه ، فهم الذين زينوا له السوء ، وحرضوه على البطش بموسى لأنه جاءهم بالحق ، ولقد حكى الله عنهم نفاقهم وضلالهم وانغماسهم في الآثام في آيات كثيرة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } ولقد وصف الله - تعالى - قوم فرعون بهوان الشخصية ، وتفاهة العقل ، والخروج عن كل مكرمة فقال : { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } وذلك لأن الأمة التي تترك الظالم وبطانته يعيثون في الأرض فساداً ، لا تستحق الحياة ، ولا يكون مصيرها إلا إلى التعاسة والخسران .

وقوله { كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } تفسير لصنيعهم الباطل ، ودأبهم على الفساد والضلال .

والمراد بآيات الله : ما يعم المتلوة في كتب الله - تعالى - ، والبراهين والمعجزات الدالة على صدق الأنبياء فيما يبلغونه عن ربهم .

وفى إضافتها إلى الله : تعظيم لها وتشريف ، وتنبيه إلى قوة دلالتها على الحق والخير .

وقوله : { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } معطوف على قوله { كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } لبيان ما ترتب على كفرهم من عقوبات أليمة .

وفى التعبير بالأخذ إشارة إلى شدة العذاب ، فهو - سبحانه - قد أخذهم كما يؤخذ الأسير الذي لا يستطيع الفكاك من آسره .

والباء في قوله : { بِذُنُوبِهِمْ } للسببية أي كفروا بآيات الله فعاقبتهم - سبحانه - بسبب كفرهم وفسوقهم عن أمره .

ويجوز أن تكون للملابسة ، أى : أخذهم وهم تلبسون بذنوبهم دون أن يثوبوا منها ، أو يقلعوا عنها .

وعلى الوجهين فالجملة الكريمة تدل على كمال عدل الله - تعالى - لأنه ما عاقبهم إلا لأنهم استحقوا العقاب .

والمراد بذنوبهم : كفرهم وما ترتب عليه من فسوق وعصيان ، وأصل الذنب : الأخذ بذنب الشئ أي بمؤخرته ، ثم أطلق على الجريمة ، لأن مرتكبها يعاقب بعدها .

وقوله : { إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } تذييل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ الشديد ، بسبب الكفر والمعاصى .

أى : إن الله - تعالى - قوى لا يغلبه غالب ، ولا يدفع قضاءه دافع ، شديد عقابه لمن كفر بآياته ، وفسق عن أمره .