الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيّٞ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (52)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم نعتهم، فقال: {كدأب ءال فرعون}، يقول: كأشباه آل فرعون في التكذيب والجحود، {و} كأشباه {والذين من قبلهم}، أي من قبل فرعون وقومه من الأمم الخالية، قوم نوح وعاد وثمود وإبراهيم، وقوم شعيب، {كفروا بآيات الله}، يعني بعذاب الله بأنه ليس بنازل بهم في الدنيا، {فأخذهم الله}، يعني فأهلكهم الله، {بذنوبهم}، يعني بالكفر والتكذيب، {إن الله قوي} في أمره حين عذبهم، {شديد العقاب} إذا عاقب.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فعل هؤلاء المشركون من قريش الذين قتلوا ببدر كعادة قوم فرعون وصنيعهم وفعلهم، وفعل من كذب بحجج الله ورسله من الأمم الخالية قبلهم، ففعلنا بهم كفعلنا بأولئك. وقد بيّنا فيما مضى أن الدأب: هو الشأن والعادة... عن عامر ومجاهد وعطاء: كَدأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ: كفعل آل فرعون، كسنن آل فرعون.

وقوله:"فَأخَذَهُمُ اللّهُ بذُنُوِبِهِمْ" يقول: فعاقبهم الله بتكذيبهم حججه ورسله ومعصيتهم ربهم، كما عاقب أشكالهم والأمم الذين قبلهم. "إنّ اللّهَ قَوِيّ "لا يغلبه غالب ولا يردّ قضاءه رادّ، ينفذ أمره ويمضي قضاءه في خلقه، "شديد" عقابه لمن كفر بآياته وجحد حججه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

...قال بعضهم: صنيع هؤلاء أي صنيع أهل مكة بمحمد كصنيع فرعون وقومه بموسى في التكذيب الكفر بآياته...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والمعنى: أنه جُوزِي هؤلاء بالقتل والأسر كما جوزي آل فرعون بالغرق.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لمَّا سلكوا مسلكَ أَهلِ فرعون في الضلال، سَلَكْنا بهم مسلكهم فيما أذقناهم من العذاب وسوء الحال، وسُنَّةُ الله ألا تغيير في الإنعام، وعادته ألا تبديلَ في الانتقام، ومَنْ لم يَعْتَبِرْ بما يشهد اعْتَبَرَ بما يصنعه به.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ودأبهم: عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه: أي داوموا عليه وواظبوا.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... {إن الله قوي شديد العقاب} والغرض منه التنبيه على أن لهم عذابا مدخرا سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان المهلكون لأجل تكذيب الرسل بعض أهل الزمان الماضي، أدخل الجار، فقال: {من قبلهم} وهو مع ذلك من أدلة {فلم تقتلوهم} لأن هؤلاء الذين أشار إليهم كان هلاكهم بغير قتال، بل بعضهم بالريح وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالغرق وبعضهم بالخسف الذي هو غرق في الجامد، فكأنه يقول: لا ينسب أحد لنفسه فعلاً، فإنه لا فرق عندي في إهلاك أعدائي بين أن يكون إهلاكهم بتسليط من قتال أو غيره، الكل بفعلي، لولا أنا ما وقع، وذلك زاجر عظيم لمن افتخر بقتل من قتله الله على يده وفي ذلك حث على التمرن على عدم الاكتراث بشيء يكون للنفس فيه أدنى حظ ليصير ذلك خلقاً كما هو دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يضيف شيئاً من محاسنه إلا إلى خالقه إلا إن كان مأموراً فيه بالتشريع، بل يقول: قتلهم الله، صرفهم الله، نصرنا الله، كفى الله...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

وذكر الذنوب لتأكيد ما أفدته الفاء من السببية من الإشارة إلى أن لهم مع كفرهم ذنوباً أخر لها دخل في استتباع العقاب، وجوز أن يراد بذنوبهم معاصيهم المتفرعة على كفرهم فيكون الباء للملابسة أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غير تائبين عنها، وجعل العذاب من جملة دأبهم مع أنه ليس مما يتصور مداومتهم عليه واعتيادهم إياه كما هو المعتبر في مدلول الدأب كما عرفت إما لتغليب ما فعلوه على ما فعل بهم أو لتنزيل مداومتهم على ما يوجبه من الكفر والمعاصي بمنزلة مداومتهم عليه لما بينهما من الملابسة التامة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن الله -سبحانه- لا يكل الناس إلى فلتات عابرة، ولا إلى جزاف لا ضابط له.. إنما هي سنته يمضي بها قدره.. وما أصاب المشركين في يوم بدر، هو ما يصيب المشركين في كل وقت؛ وقد أصاب آل فرعون والذين من قبلهم..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... فالتقدير هنا: دأبُهم كدَأب آلِ فرعون والذين من قبلهم، أي من الأمم المكذّبين برسل ربّهم، مثل عاد وثمود.

والدأب: العادة والسيرة المألوفة، وقد تقدّم مثله في سورة آل عمران. وتقدّم وجه تخصيص آل فرعون بالذكر. ولا فرق بين الآيتين إلاّ اختلاف العبارة، ففي سورة [آل عمران: 11] {كذبوا بآياتنا} وهنا {كفروا بآيات الله}، وهنالك {والله شديد العقاب} [آل عمران: 11] وهنا {إن الله قوي شديد العقاب}.

فأمّا المخالفة بين {كذبوا} [آل عمران: 11] و {كفروا} فلأنَّ قوم فرعون والذين من قبلهم شاركوا المشركين في الكفر بالله وتكذيب رسله، وفي جحد دلالة الآيات على الوحدانية وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فذُكِروا هنا ابتداء بالأفظع من الأمرين فعبّر بالكفر بالآيات عن جحد الآيات الدالّة على وحدانية الله تعالى، لأنّ الكفر أصرح في إنكار صفات الله تعالى. وقد عقبت هذه الآية بالتي بعدها، فذكر في التي بعدها التكذيب بالآيات، أي التكذيب بآيات صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وجَحد الآيات الدالّة على صدقه. فأمّا في سورة آل عمران [11] فقد ذكر تكذيبهم بالآيات، أي الدالّة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنّ التكذيب متبادر في معنى تكذيب المخبِر، لوقوع ذلك عقب ذكر تنزيل القرآن وتصديق من صدق به، وإلحاد من قصد الفتنة بمتشابهه، فعبّر عن الذين شابَهوهم في تكذيب رسولهم بوصف التكذيب.

فأمّا الإظهار هنا في مقام الإضمار، فاقتضاه أنّ الكفر كفر بما يرجع إلى صفات الله فأضيفت الآيات إلى اسم الجلالة؛ ليدلّ على الذات بعنوان الإله الحَقّ وهو الوحدانية.

وأمّا الإضمار في آل عمران فلكون التكذيب تكذيباً لآيات دالّة على ثبوت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فأضيفت الآيات إلى الضمير على الأصل في التكلّم.

وأمّا الاختلاف بذكر حرف التأكيد هنا، دونه في سورة آل عمران [11]، فلأنّه قصد هنا التعريض بالمشركين، وكانوا ينكرون قوّة الله عليهم، بمعنى لازمها، وهو إنزال الضرّ بهم، وينكرون أنّه شديد العقاب لهم، فأكّد الخبر باعتبار لازمه التعريضي الذي هو إبلاغ هذا الإنذار إلى من بقي من المشركين، وفي سورة آل عمران [11] لم يقصد إلا الإخبار عن كون الله شديد العقاب إذا عاقب، فهو تذكير للمسلمين وهم المقصود بالإخبار بقرينة قوله، عقِبَه: {قل للذين كفروا ستغلبون} [آل عمران: 12] الآية.

وزيد وصفُ « قوي» هنا مبالغة في تهديد المشركين المقصودين بالإنذار والتهديد. والقوي الموصوف بالقوة، وحقيقتها كمال صلابة الأعضاء لأداء الأعمال التي تراد منها، وهي متفاوتة مقول عليها بالتشكيك.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وقد أخذ سبحانه يقص بعض القصص عن الظالمين و عقابهم...

بين الله تعالى في الآيات السابقة أن الله تعالى يعاقب المشركين عقابين؛ عقابا في الدنيا وهو أن ينتصف للمؤمنين، وأن ينصرهم، وأن يجعل الكافرين الأذلين، وكلمة الله هي العليا، وكلمة الكفر هي السفلى، ويبدل المؤمنين من خوفهم أمنا.

العقاب الثاني هو عقاب الآخرة، وإن عقاب الدنيا قد يكون بأسباب يوفق إليها، وقد يكون من الله تعالى يكون بمعجزة أو بأمر خارق للعادة كإغراق فرعون، والنصرة بالريح، وكلاهما من أمر الله تعالى، ومن توفيقه، وقد ذكر الله طواغيت مكة بطاغوت فرعون، وقد أذال الله تعالى منه، فقال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

الكاف للتشبيه والمشبه ما فعله المشركين، وما ارتكبوه بالنسبة للمؤمنين، والمعنى أن الله تعالى لتشابه أفعال مع أعمال فرعون وآله أنزل بهم ما أنزله بفرعون، لقد طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، فأخذهم بذنوبهم أي أنزل بهم عاقبة ما فعلوا، فأصابهم بالرجس وأرسل عليهم الضفادع والدم آيات مفصلات.

وقوله {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} الدأب مصدر دأب دؤوبا، أي فعلوا مثل ما فعل آل فرعون دائبين مستمرين عليه من تذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم، وإيذاء موسى وقومه، ومن قطع أيدي السحرة وأرجلهم من خلاف، إذ آمنوا بربهم، ومن طغيانه وملئه في البلاد، وادعائه الألوهية وطغيانه على أهل مصر، وقوله لهم ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.

تشابهت أفعال المشركين مع أفعال فرعون وملئه الذين دأبوا عليها، واستمروا قائمين بها، فكان حقا عليهم أن ينتظروا لهم مثل ما آل إليه أمر فرعون، وقد بين سبحانه وتعالى أنه أخذهم بذنوبهم فقال: {فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ} الباء للسببية وأخذهم معناها أخذهم أخذ معذب مكافئ بما فعلوا، فالأخذ يتضمن عقابهم على ما فعلوا، وهو القوي القادر، كما قال في آية أخرى: {فأخذهم أخذ عزيز مقتدر (42)} (القمر)، وقوله تعالى بذنوبهم، أي أخذهم بالعقاب بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها في حق الناس من تأله، ومن تعذيب، وإفساد للعقول بالضلال والنفوس بالإرهاق والأذى، ويصح أن تكون الباء للإلصاق، ويكون المعنى أخذهم مصاحبين لذنوبهم ويذكرون جرائمهم، إذ ينزل بهم العذاب.

وقد ذيل الله تعالى النص الكريم بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

وهذا في مقام التعليل لقدرته تعالى على الأخذ الشديد لفرعون وأشباه فرعون، وإن بغوا وطغوا، وقد وصف الله جل جلاله بوصفين يدلان على شدة الأخذ والعذاب؛ الأول وصف ذاتي معنوي، وهو القوة فهو ذو القوة المتين، والوصف الثاني، هو أن عقابه شديد متناسب مع الذنوب، ومثل فرعون وملته ذنوبهم كبيرة شديدة قوية، فلا بد أن العقاب من جنسها، وهو جزاء وفاق لها.

وأكد الله تعالى هذين الوصفين بعدة مؤكدات فأكده بتصويره الجملة بوصف الجلالة، وهو يلقي بالرهبة والهيبة ويكون الجملة الاسمية، (وبإن) التي تؤكد القول، وقانا الله تعالى شر عذابه ومنحنا رحمته، إنه هو الغفور الرحيم،

وإما ينزل بالطغاة من أخذ لهم إنما هو من نفوسهم التي غيروها، وشوهوا فطرتها بمظالمهم، لذا قال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما له من دونه من وال} (الرعد 11)، وقال الله تعالى في معنى هذه الآية: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

في هذه الآيات إشارة إِلى «سنة إلهية دائمة» تتعلق بالشعوب والأُمم والمجتمعات، لئلا يتصور بعض أنّ ما أصاب المشركين يوم بدر من عاقبة سيئة كان أمراً استثنائياً، فإنّ من جاء بمثل تلك الأعمال في السابق، أو سيقوم بها مستقبلا سينال العاقبة ذاتها.

فبناءً على هذه فإن قريشاً والمشركين وعبدة الأصنام في مكّة، الذين أنكروا آيات الله وتعنتوا بوجه الحق وحاربوا قادة الإِنسانية، ليسوا وحدهم الذين نالوا جزاء ما اقترفوه، بل إنّ ذلك قانون دائم، وسنة إلهية تشمل من هم أقوى منهم كآل فرعون كما تشمل الشعوب الضعيفة كذلك...