نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيّٞ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (52)

ولما بين بما مضى ما يوجب الاجتماع عليه والرجوع في كل أمر إليه ، وبين أن من خالف ذلك هلك كائناً من كان ؛ أتبعه بما يبين أن هذا من العموم والاطراد بحيث لا يخص زماناً دون زمان ولا مكاناً سوى{[35135]} مكان فقال تعالى : { كدأب } أي عادة هؤلاء الكفار وشأنهم الذي دأبوا فيه وداموا وواظبوا فمرنوا{[35136]} عليه كعادة { آل فرعون } أي الذين{[35137]} هؤلاء اليهود من أعلم الناس بأحوالهم { والذين } ولما كان المهلكون لأجل تكذيب الرسل بعض أهل الزمان الماضي ، أدخل الجار فقال : { من قبلهم } وهو مع ذلك من أدلة { فلم تقتلوهم } لأن هؤلاء الذين أشار إليهم كان هلاكهم بغير قتال{[35138]} ، بل بعضهم بالريح وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالغرق وبعضهم بالخسف الذي هو غرق في الجامد ، فكأنه يقول : لا ينسب أحد لنفسه فعلاً ، فإنه لا فرق عندي في إهلاك أعدائي بين أن يكون إهلاكهم بتسليط من قتال أو غيره ، الكل بفعلي ، لولا أنا ما وقع ، وذلك{[35139]} زاجر عظيم لمن افتخر بقتل من قتله الله على يده{[35140]} ، أو نازع في النفل ، وهو راجع إلى قوله تعالى ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم }{[35141]}[ الحديد : 23 ] وفي ذلك حث على التمرن على عدم الاكتراث بشيء يكون للنفس فيه أدنى حظ ليصير ذلك خلقاً كما هو دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يضيف شيئاً من محاسنه إلا إلى خالقه إلا إن كان مأموراً فيه بالتشريع ، بل يقول : قتلهم الله ، صرفهم الله ، نصرنا الله ، كفى الله ، فإذا صار ذلك للمستمسكين به خلقاً أفضى بهم إلى مدح الخالق و{[35142]} المخلوق لهم كما قال كعب بن زهير رضي الله عنه{[35143]} في مدحهم :ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم *** قوماً{[35144]} وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا

ثم بين تعالى الحال الذي شابهوا فيه من قبلهم بقوله : { كفروا بآيات الله } أي ستروا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من دلالات الملك الأعلى وغطوها لأنهم لم يعملوا بها وصدوا عن ذلك من تبعهم ، فكان جزاؤهم ما تسبب عن ذلك من قوله : { فأخذهم الله } اي الذي له مجامع الكبر ومعاقد العظمة والعز أخذ غلبة وقهر وعقوبة { بذنوبهم } كما أخذهم فإنهم تجرؤوا على رتبة الألوهية التي تخسأ دون شوامخها نوافذ الأبصار ، وتظلم عند بوارق أشعتها سواطع الأنوار ، وتضمحل بالبعد عن أول مراقبها القوى ، وتنقطع بتوهم الدنو من فيافيها الأعناق ، فنزلت بهم صواعق هيبتها ، وأناخت عليهم صروف عظمتها ، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ولا تحس إلا ملاعبهم{[35145]} وأماكنهم .

ولما أخبر بأخذهم ، علله بقوله : { إن الله } أي الذي له الإحاطة الشامله { قوي } أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء { شديد العقاب* } .


[35135]:في ظ: دون.
[35136]:في ظ: فمروا.
[35137]:من ظ، وفي الأصل: الذي.
[35138]:من ظ، وفي الأصل: فقال.
[35139]:في ظ: هو.
[35140]:في ظ: يديه.
[35141]:سورة 57 من آية 23.
[35142]:زيد من ظ.
[35143]:من ظ، وفي الأصل: عنهم.
[35144]:من ديوان كعب، وفي الأصل وظ: يوما.
[35145]:من ظ، وفي الأصل: مل ـ كذا.