قوله عز وجل :{ ومن يقنت } يطع ، { منكن لله ورسوله } قرأ يعقوب : من تأت منكن ، وتقنت بالتاء فيهما ، وقرأ العامة بالياء لأن من أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، { وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين } أي : مثل أجر غيرها . قال مقاتل : مكان كل حسنة عشرين حسنة . وقرأ حمزة والكسائي : يعمل ، يؤتها بالياء فيهما نسقاً على قوله : ومن يأت ، ويقنت وقرأ الآخرون بالتاء ، { واعتدنا لها رزقاً كريماً } حسناً يعني الجنة .
ثم ذكر عدله وفضله في قوله : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : يطع{[23380]} الله ورسوله ويستجب { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } أي : في الجنة ، فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في أعلى عليين ، فوق منازل جميع الخلائق ، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش .
ولما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله تعالى ونواهيه قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن ، فضوعف لهن الأجر والعذاب ، والإشارة بالفاحشة إلى الزنا وغيره ، وقرأ ابن كثير وشبل وعاصم{[9505]} «مبيَّنة » بالفتح في الياء ، وقرأ نافع وأبو عمرو وقتادة «مبيَنة » بكسر الياء ، وقرأت فرقة «يضعف » بالياء على إسناد الفعل إلى الله تعالى ، وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه خارجة «نُضاعف » بالنون المضمومة ونصب «العذابَ » وهي قراءة ابن محيصن ، وهذه مفاعلة من واحد كطارقت النعل وعاقبت اللص ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «يضاعَف » بالياء وفتح العين ، «العذابُ » رفعاً ، وقرأ أبو عمرو «يضعَّف » على بناء المبالغة بالياء «العذابُ » رفعاً وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «نضعِّف » بالنون وكسر العين المشددة «العذابَ » نصباً وهي قراءة الجحدري . وقوله { ضعفين } معناه أن يكون العذاب عذابين ، أي يضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر مثله ، وقال أبو عبيدة وأبو عمرو ، وفيما حكى الطبرى عنهما ، بل يضاعف إليه عذابان مثله فتكون ثلاثة أعذبة وضعفه الطبري ، وكذلك هو غير صحيح وإن كان له باللفظ تعلق احتمال ويكون الأجر مرتين ما يفسد هذا القول لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة ، والإشارة بذلك إلى تضعيف العذاب . و { يقنت } معناه يطيع ويخضع بالعبودية قال الشعبي وقتادة ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يقنت » بالياء ، «وتعمل » بالتاء ، «نؤتها » بالنون ، وهي قراءة الجمهور ، قال أبو علي أسند «يقنت » إلى ضمير فلما تبين أنه المؤنث حمل فيما يعمل على المعنى ، وقرأ حمزة والكسائي كل الثلاثة المواضع بالياء حملاً في الأولين على لفظ { من } وهي قراءة الأعمش وأبي عبد الرحمن وابن وثاب ، وقرأ الأعمش «فسوف يؤتها الله أجرها » ، و «الإعتاد » التيسير والإعداد ، و «الرزق الكريم » الجنة ، ويجوز أن يكون في ذلك وعد دنياوي ، أي أن رزقها في الدنيا على الله وهو كريم من حيث ذلك هو حلال وقصد ويرضى من الله في نيله ، وقال بعض المفسرين { العذاب } الذي توعد به { ضعفين } هو عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة وكذلك الأجر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع عنهن حدود الدنيا عذاب الآخرة على ما هي عليه حال الناس بحكم حديث عبادة بن الصامت{[9506]} ، وهذا أمر لم يرو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا حفظ تقرره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
من يطع منكن الله ورسوله {وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين} في الآخرة...
{واعتدنا لها رزقا كريما} حسنا، وهي الجنة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَمَن يَقْنُتْ} قرئ بالتحتية وكذا يأت منكن حملا على لفظ من في الموضعين، وقرئ بالفوقية حملا على المعنى، والقنوت الطاعة أي يطع.
{مِنكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} يعني أنه يكون لهن من الأجر على الطاعة مثلا ما يستحقه غيرهن من النساء إذا فعلن تلك الطاعة. وفي هذا دليل قوي على أن معنى يضاعف لها العذاب ضعفين أنه يكون العذاب مرتين لا ثلاثا، لأن المراد إظهار شرفهن ومرتبتهن في الطاعة والمعصية، يكون حسنتهن كحسنتين وسيئتهن كسيئتين ولو كانت كثلاث سيئات لم يناسب ذلك كون حسنتهن كحسنتين، فإن الله أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهن مضاعفة تزيد على مضاعفة أجرهن، قيل الحسنة بعشرين حسنة، وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن، وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين.
{وَأَعْتَدْنَا لَهَا} زيادة على الأجر مرتين {رِزْقًا كَرِيمًا} جليل القدر، قال المفسرون: هو نعيم الجنة، حكى ذلك عنهم النحاس، ثم أظهر سبحانه فضيلتهن على سائر النساء تصريحا فقال: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والقنوت: المداومة على العمل، فمن داوم على العمل لله فهو مطيع، ومنه القنوت في صلاة الوتر، وهو المداومة على الدعاء المعروف.
والعمل الصالح هو المستقيم الذي يحسن أن يحمد عليه ويستحق به الثواب.
والأجر: الجزاء على العمل، وهو الثواب...
" وأعتدنا لها رزقا كريما "أعتدنا: أعددنا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وإنما ضوعف أجرهنّ لطلبهنّ رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، وطيب المعاشرة والقناعة، وتوفرهنّ على عبادة الله والتقوى...
لطيفة: وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر المؤتي وهو الله، وعند العذاب لم يصرح بالمعذب فقال: {يضاعف} إشارة إلى كمال الرحمة والكرم، كما أن الكريم الحي عند النفع يظهر نفسه وفعله، وعند الضر لا يذكر نفسه.
{وأعتدنا لها رزقا كريما} وصف رزق الآخرة بكونه كريما، مع أن الكريم لا يكون إلا وصفا للرزاق إشارة إلى معنى لطيف، وهو أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس، التاجر يسترزق من السوقة، والمعاملين والصناع من المستعملين، والملوك من الرعية والرعية منهم، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه، وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار،وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه، فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرزاق، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{ومن يقنت}: أي يطع ويخضع بالعبودية لله، وبالموافقة لرسوله.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
في الجنة، فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أعلى عليين، فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قدم درء المفاسد الذي هو من باب التخلي، أتبعه جلب المصالح الذي هو من طراز التحلي فقال: {ومن يقنت} أي يخلص الطاعة {منكن لله} الذي هو أهل لئلا يلتفت إلى غيره؛ لأنه لا أعظم منه بإدامة الطاعة فلا يخرج عن مراقبته أصلاً {ورسوله} فلا تغاضبه ولا تطلب منه شيئاً، ولا تختار عيشاً غير عيشه، فإنه يجب على كل أحد تصفية فكره، وتهدئة باله وسره، ليتمكن غاية التمكن من إنفاذ أوامرنا والقيام بما أرسلناه بسببه من رحمة العباد، بإنقاذهم مما هم فيه من الأنكاد.
ولما كان ذلك قد يفهم الاقتصار على عمل القلب قال: {وتعمل} قرأها حمزة والكسائي بالتحتانية رداً على لفظ "من "حثاً لهن على منازل الرجال، وقراءة الجماعة بالفوقانية على معناها على الأصل مشيرة إلى الرفق بهن في عمل الجوارح والرضى بالمستطاع كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام:
" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "وأما عمل القلب فلا رضى فيه بدون الغاية، فلذا كان" يقنت "مذكراً لا على شذوذ {صالحاً} أي في جميع ما أمر به سبحانه أو نهى عنه {نؤتها} أي بما لنا من العظمة على قراءة الجماعة بالنون، وقراءة حمزة والكسائي بالتحتانية على أن الضمير لله {أجرها مرتين} أي بالنسبة إلى أجر غيرها من نساء بقية الناس {وأعتدنا} أي هيأنا بما لنا من العظمة وأحضرنا {لها} بسبب قناعتها مع النبي صلى الله عليه وسلم المريد للتخلي من الدنيا التي يبغضها الله مع ما في ذلك من توفير الحظ في الآخرة {رزقاً كريماً} أي في الدنيا والآخرة، فلا شيء أكرم منه لأن ما في الدنيا منه يوفق لصرفه على وجه يكون فيه أعظم الثواب، ولا يخشى من أجله نوع عتاب فضلاً عن عقاب، وما في الآخرة منه لا يوصف ولا يحد، ولا نكد فيه بوجه أصلاً ولا كد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعاً لكلّ هذه المواهب.
إنّ تعدّد مراتب الأشخاص واختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة اختلاف مكاناتهم الاجتماعية، وكونهم اُسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.