{ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } وهو البيت الذي فوق السماء السابعة ، المعمور مدى الأوقات بالملائكة الكرام ، الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك [ يتعبدون فيه لربهم ثم ] ، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة وقيل : إن البيت المعمور هو بيت الله الحرام ، والمعمور بالطائفين والمصلين والذاكرين كل وقت ، وبالوفود إليه بالحج والعمرة .
كما أقسم الله به في قوله : { وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } وحقيق ببيت أفضل بيوت الأرض ، الذي قصده بالحج والعمرة ، أحد أركان الإسلام ، ومبانيه العظام ، التي لا يتم إلا بها ، وهو الذي بناه إبراهيم وإسماعيل ، وجعله الله مثابة للناس وأمنا ، أن يقسم الله به ، ويبين من عظمته ما هو اللائق به وبحرمته .
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء - بعد مجاوزته إلى السماء السابعة - : " ثم رفع بي {[27472]} إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم " يعني : يتعبدون فيه ويطوفون ، كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم كذلك ذاك البيت ، هو كعبة أهل السماء السابعة ؛ ولهذا وجد إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، مسندا ظهره إلى البيت المعمور ؛ لأنه باني الكعبة الأرضية ، والجزاء من جنس العمل ، وهو بحيال الكعبة ، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ، ويصلون إليه ، والذي في السماء الدنيا يقال له : بيت العزة . والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا روح بن جناح ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " في السماء السابعة بيت يقال له : " المعمور " ؛ بحيال الكعبة ، وفي السماء الرابعة نهر يقال له : " الحيوان " يدخله جبريل كل يوم ، فينغمس فيه انغماسة ، ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخر عنه سبعون ألف قطرة ، يخلق الله من كل قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور ، فيصلوا {[27473]} فيه فيفعلون ، ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبدا ، ويولي عليهم أحدهم ، يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفا يسبحون الله فيه إلى أن تقوم الساعة " .
هذا حديث غريب جدا ، تفرد به روح بن جناح هذا ، وهو القرشي الأموي مولاهم أبو سعد الدمشقي ، وقد أنكر هذا الحديث عليه جماعة من الحفاظ منهم : الجوزجاني ، والعقيلي ، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري ، وغيرهم .
قال الحاكم : لا أصل له من حديث أبي هريرة ، ولا سعيد ، ولا الزهري {[27474]}
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد بن السُّريّ ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن {[27475]} عرعرة ، أن رجلا قال لعلي : ما البيت المعمور ؟ قال : بيت في السماء يقال له : " الضُّراح " وهو بحيال الكعبة من فوقها ، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ، لا{[27476]} يعودون فيه أبدا{[27477]}
وكذا رواه شعبة وسفيان الثوري ، عن سِمَاك وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك ، ثم رواه ابن جرير عن أبي كُرَيب ، عن طَلْق بن غنام ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن علي بن ربيعة قال : سأل ابن الكواء عليا عن البيت المعمور ، قال : مسجد في السماء يقال له : " الضُّراح " ، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ، ثم لا يعودون فيه أبدا . ورواه من حديث أبي الطُّفَيْل ، عن علي بمثله .
وقال العَوْفي عن ابن عباس : هو بيت حذاء العرش ، تعمره الملائكة ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه ، وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وغير واحد من السلف .
وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه : " هل تدرون ما البيت المعمور ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة ، لو خر لخر عليها ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم " .
وزعم الضحاك أنه يعمره طائفة من الملائكة يقال لهم : الحِن {[27478]} ، من قبيلة إبليس {[27479]} ، فالله أعلم .
واختلف الناس في { البيت المعمور } فقال الحسن بن أبي الحسن البصري : هي الكعبة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وعكرمة : هو بيت في السماء يقال له الضراح ، وهو بحيال الكعبة ، ويقال الضريح ، ذكر ذلك الطبري وهو الذي ذكر في حديث الإسراء . قال جبريل عليه السلام : هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم{[10628]} وبهذا عمارته . ويروى أنه في السماء السابعة . وقيل في السادسة وقيل إنه مقابل الكعبة لو خر لسقط عليها . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : في كل سماء بيت معمور ، وفي كل أرض كذلك . وهي كلها على خط مع الكعبة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وَالبَيْتِ المَعْمُورِ يقول: والبيت الذي يعمر بكثرة غاشيته وهو بيت فيما ذُكر في السماء بحيال الكعبة من الأرض، يدخله كلّ يوم سبعون ألفا من الملائكة، ثم لا يعودون فيه أبدا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... يحتمل أن يكون القسم بالبيت المعمور، هو الكعبة، وهو معمور، قد عظّم الله شأنه وأمره في قلوب الناس كافّة: في قلوب الكفار والمؤمنين جميعا، حتى كانت قريش وسائر العرب يحُجّونه، ويزورونه، ويعظّمونه فأقسم به على ما ذكر، والله أعلم. وقال أبو عبيدة: {والبيت المعمور} الكثير الأهل...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء -بعد مجاوزته إلى السماء السابعة -: "ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم " يعني: يتعبدون فيه ويطوفون، كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم كذلك ذاك البيت، هو كعبة أهل السماء السابعة؛ ولهذا وجد إبراهيم الخليل، عليه السلام، مسندا ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل، وهو بحيال الكعبة، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها، ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له: بيت العزة. والله أعلم.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{والبيت المعمور} أي الذي يعمر بكثرة غاشيته. وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمّار والطائفين والعاكفين والمجاورين.لأنه يناسب ما جاء في سورة (التين) من عطف {البلد الأمين} على {طور سنين} والقرآن يفسر بعضه بعضا، لتشابه آياته، وتماثلها كثيرا، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وثمة أخبار كثيرة متفاوتة في أن في السماء موضعاً يقال له: البيت المعمور، لكن الروايات في كونه المرادَ من هذه الآية ليست صريحة.
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
وليس هناك منافاة بين أن يكون المقسم به الكعبة، أو البيت المعمور في السماء، لأن كلا البيتين معظم، ذاك معظم في أهل السماء، وهذا معظم في أهل الأرض، ولا مانع، فالصواب أن الآية شاملة لهذا وهذا، إلا إذا وُجد قرينة ترجح أن المراد به البيت المعمور في السماء