قوله تعالى : { واحلل عقدةً من لساني } وذلك أن موسى كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره ، فلطم فرعون لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته إن هذا عدوي وأراد أن يقتله ، فقالت آسية : إنه صبي لا يعقل ولا يميز . وفي رواية أن أم موسى لما فطمته ردته ، فنشأ في حجر فرعون وامرأته آسية يربيانه ، واتخذاه ولداً ، فبينما هو يلعب يوماً بين يدي فرعون وبيده قضيب يلعب به إذ رفع القضيب ، فضرب به رأس فرعون ، فغضب فرعون وتطير بضربه حتى هم بقتله ، فقالت آسية : أيها الملك إنه صغير لا يفعل ، فجربه إن شئت ، وجاءت بطشتين في أحدهما الجمر وفي الآخر الجواهر ، فوضعتهما بين يدي موسى ، فأراد أن يأخذ الجواهر ، فأخذ جبريل بيد موسى ، فوضعها على النار ، فأخذ جمرة ، فوضعها في فمه فأحرقت لسانه وصارت عليه عقدة .
{ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } وذلك لما كان أصابه من اللثغ ، حين عرض عليه التمرة والجمرة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه ، كما سيأتي بيانه ، وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل بحيث{[19258]} يزول العي ، ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة . ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت بقية ، قال الله تعالى إخبارًا عن فرعون أنه قال : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ } [ الزخرف 52 ] أي : يفصح بالكلام .
وقال الحسن البصري : { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي } قال : حل عقدة واحدة ، ولو سأل أكثر من ذلك أعطى .
وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءًا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه سؤله ، فحل عقدة من لسانه .
وقال ابن أبي حاتم : ذُكِرَ عن عَمْرو بن عثمان ، حدثنا بَقِيّة ، عن أرطأة بن المنذر ، حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب ، عنه قال : أتاه ذو قرابة له . فقال له : ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك ، ولست تعرب في قراءتك ؟ فقال القرظي : يا ابن أخي ، ألست أفهمك إذا حدثتك{[19259]} ؟ . قال : نعم . قال : فإن موسى ، عليه السلام ، إنما سأل ربه أن يحل{[19260]} عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه ، ولم يزد عليها . هذا لفظه .
وقوله : " وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي " يقول : وأطلق لساني بالمنطق ، وكانت فيه فيما ذكر عُجمة عن الكلام الذي كان من إلقائه الجمرة إلى فيه يوم همّ فرعون بقتله . ذكر الرواية بذلك عمن قاله :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : " عُقْدَةً مِنْ لِسانِي " قال : عجمة لجمرة نار أدخلها في فيه عن أمر امرأة فرعون ، تردّ به عنه عقوبة فرعون ، حين أخذ موسى بلحيته وهو لا يعقل ، فقال : هذا عدوّ لي ، فقالت له : إنه لا يعقل .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح " وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي " لجمرة نار أدخلها في فيه عن أمر امرأة فرعون ، تدرأ به عنه عقوبة فرعون ، حين أخذ موسى بلحيته وهو لا يعقل ، فقال : هذا عدوّ لي ، فقالت له : إنه لا يعقل ، هذا قول سعيد بن جبير .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جرَيج ، عن مجاهد ، قوله : " وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي " قال : عجمة الجمرة نار أدخلها في فيه ، عن أمر امرأة فرعون تردّ به عنه عقوبة فرعون حين أخذ بلحيته .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما تحرّك الغلام ، يعني موسى ، أورته أمه آسية صبيا ، فبينما هي ترقصه وتلعب به ، إذ ناولته فرعون ، وقالت : خذه فلما أخذه إليه أخذ موسى بلحيته فنتفها ، فقال فرعون : عليّ بالذباحين ، قالت آسية : لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا إنما هو صبيّ لا يعقل ، وإنما صنع هذا من صباه ، وقد علمتَ أنه ليس في أهل مصر أحلى منى أنا أضع له حليا من الياقوت ، وأضع له جمرا ، فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه ، وإن أخذ الجمر فإنما هو صبيّ فأخرجت له ياقوتها ووضعت له طستا من جمر ، فجاء جبرائيل صلى الله عليه وسلم ، فطرح في يده جمرة ، فطرحها موسى في فيه ، فأحرقت لسانه ، فهو الذي يقول الله عزّ وجلّ " وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلي " ، فزالت عن موسى من أجل ذلك .
والعقدة التي دعا في حلها هي التي اعترته بالجمرة التي جعلها في فيه حين جربه فرعون » . وروي في ذلك أن فرعون أراد قتل موسى وهو طفل حين مد يده إلى لحية فرعون ، فقالت له امرأته إنه لا يعقل ، فقال بل هو يعقل وهو عدو لي ، فقالت له نجربه ، قال أفعل ، فدعت بجمرات من نار وبطبق فيه ياقوت فقالا : إن أخذ الياقوت علمنا أنه يعقل ، وإن أخذ النار عذرناه فمد موسى يده إلى جمرة فأخذها فلم تعد على يده ، فجعلها في فمه فأحرقته وأورث لسانه عقدة في كبره أي : حبسة ملبسة في بعض الحروف .
قال ابن الجوهري «كف الله تعالى النار عن يده لئلا يقول النار طبعي واحترق لسانه لئلا يقول موسى مكانتي » وموسى عليه السلام إنما طلب من حل العقدة قدر أن يفقه قوله ، فجائز أن يكون ذلك كله زال ، وجائز أن يكون بقي منه القليل ، فيجتمع أن يؤتى هو سؤله وأن يقول فرعون ، ولا يكاد يبين{[1]} ، ولو فرضناه زال جملة لكان قول فرعون سبا لموسى بحالته القديمة .
العُقدة : موضع ربط بعض الخيط أو الحبل ببعض آخر منه ، وهي بزنة فُعلة بمعنى مفعول كقُضة وغُرفة ؛ أطلقت على عسر النطق بالكلام أو ببعض الحروف على وجه الاستعارة لعدم تصرف اللسان عند النطق بالكلمة وهي استعارة مصرّحة ، ويقال لها حُبْسة . يقال : عَقِد اللسان كفرح ، فهو أعقد إذا كان لا يبين الكلام . واستعار لإزالتها فعل الحل المناسب العقدة على طريقة الاستعارة المكنية .
وزيادة { لِي } بعد { اشْرَحْ } وبعد { يسر } إطناب كما أشار إليه صاحب « المفتاح » لأنّ الكلام مفيد بدونه .
ولكن سلك الإطناب لما تفيده اللام من معنى العلّة ، أي اشرح صدري لأجلي ويسر أمري لأجلي ، وهي اللام الملقبة لامَ التبيين التي تفيد تقوية البيان ، فإن قوله { صدري } و { أمري } واضح أن الشرح والتيسير متعلقان به فكان قوله لي فيهما زيادة بيان كقوله : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] وهو هنا ضرب من الإلحاح في الدعاء لنفسه .
وأمّا تقديم هذا المجرور على متعلقه فليحصل الإجمال ثم التفصيل فيفيد مفاد التأكيد من أجل تكرر الإسناد .
ولم يأت بذلك مع قوله { واحْللْ عُقدةً مِن لِساني } لأنّ ذلك سؤال يرجع إلى تبليغ رسالة الله إلى فرعون فليست فائدتها راجعة إليه حتى يأتي لها بلام التبيين .
وتنكير { عقدة } للتعظيم ، أي عقدة شديدة .
و { مِن لِساني } صفة لعُقْدة . وعدل عن أن يقول : عقدة لساني ، بالإضافة ليتأتى التنكير المشعر بأنها عقدة شديدة .