قوله تعالى : { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } ، قيل : أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يفرقون بينهما . والأكثرون على أنه أراد به صلة الرحم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أبي سلمة أن عبد الرحمن بن عوف عاد أبا الدرداء فقال - يعني عبد الرحمن- : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " فيما يحكي عن ربه عز وجل : أنا الله ، وأنا الرحمن ، خلقت الرحم ، وشققت لها من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها بتته "
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، أنبأنا أبو جعفر الرياني ، حدثني حميد ابن زبجويه ، حدثنا ابن أبي أويس ، قال : حدثني سليمان بن بلال عن معاوية بن أبي مزود ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرحمن ، فقال : مه ، قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يارب ، قال : فذاك لك " ، ثم قال أبو هريرة : اقرؤا إن شئتم { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } [ محمد-22 ] .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، أنبأنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد ابن زنجويه ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا كثير بن عبد الله اليشكري ، حدثنا الحسن بن عبد الرحمن ابن عوف عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة تحت العرش يوم القيامة : القرآن يحاج العباد ، له ظهر وبطن ، والأمانة ، والرحم تنادى ألا من وصلني وصلة الله ومن قطعني قطعه الله " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد ابن زنجويه ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث بن سعد ، حدثني عقيل عن ابن شهاب أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أن عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد ابن عبد العزيز البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا شعبة ، عن عيينة بن عبد الرحمن قال : سمعت أبي يحدث عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الزيادي ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن محمد بن جبير ابن مطعم ، عن أبيه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يدخل الجنة قاطع " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، حدثنا أحمد بن إسحاق الصيدلاني ، أنبأنا أبو نصر أحمد بن محمد بن نصر ، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، حدثنا عمرو بن عثمان قال . سمعت موسى بن طلحة يذكر عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، " أن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له فقال : أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار ، قال صلى الله عليه وسلم : تعبد الله ، لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ، وتصل الرحم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد ابن زنجويه حدثنا أبو يعلى وأبو نعيم قالا : حدثنا قطر ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " ، رواه محمد بن إسماعيل عن محمد بن كثير عن سفيان عن قطر وقال : إذا قطعت رحمة وصلها . { ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب }
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا عام في كل ما أمر الله بوصله ، من الإيمان به وبرسوله ، ومحبته ومحبة رسوله ، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له ، ولطاعة رسوله .
ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم ، ويصلون الأقارب والأرحام ، بالإحسان إليهم قولا وفعلا ، ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك ، بأداء حقهم كاملا موفرا من الحقوق الدينية والدنيوية .
والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل ، خشية الله وخوف يوم الحساب ، ولهذا قال : { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي : يخافونه ،
فيمنعهم خوفهم منه ، ومن القدوم عليه يوم الحساب ، أن يتجرؤوا على معاصي الله ، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به خوفا من العقاب ورجاء للثواب .
( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم ، ويخافون سوء الحساب ) . .
هكذا في إجمال . فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه . أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة ، والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء . لهذا ترك الأمر مجملا ، ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل ، لأن هذا التفصيل يطول ، وهو غير مقصود ، إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي ، والطاعة المطلقة التي لا تتفلت ، والصلة المطلقة التي لا تنقطع . . ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة :
( ويخشون ربهم ، ويخافون سوء الحساب ) . .
فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء قي يوم لقائه الرهيب . وهم أولوا الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب .
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } من صلة الأرحام ، والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج ، وبذل المعروف ، { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي : فيما يأتون وما يذرون من الأعمال ، يراقبون الله في ذلك ، ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة . فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية .
المراد ب { الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } ما يصدق على الفريق الذين يوفون بعهد الله .
ومناسبة عطفه أنّ وصْلَ ما أمر الله به أن يوصل أثر من آثار الوفاء بعهد الله وهو عهد الطاعة الداخل في قوله : { وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } في سورة يس ( 61 ) .
والوصل : ضم شيء لشيء . وضده القطع . ويطلق مجازاً على القُرب وضده الهجر . واشتهر مجازاً أيضاً في الإحسان والإكرام ومنه قولهم ، صلة الرحم ، أي الإحسان لأجل الرحم ، أي لأجل القرابة الآتية من الأرحام مباشرة أو بواسط ، وذلك النسب الجائي من الأمهات . وأطلقت على قرابة النسب من جانب الآباء أيضاً لأنها لا تخلو غالباً من اشتراك في الأمهات ولو بَعِدْنَ .
و{ ما أمر الله به أن يوصل } عام في جميع الأواصر والعلائق التي أمر الله بالمودة والإحسان لأصحابها .
فمنها آصرة الإيمان ، ومنها آصرة القرابة وهي صلة الرحم . وقد اتفق المفسرون على أنها مراد الله هنا ، وقد تقدم مثله عند قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } في سورة البقرة ( 26 ، 27 ) .
وإنما أطنب في التعبير عنها بطريقة اسم الموصول { ما أمر الله به أن يوصل } لما في الصلة من التعريض بأن واصلها آتتٍ بما يرضي الله لينتقل من ذلك إلى التعريض بالمشركين الذين قطعوا أواصر القرابة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المؤمنين وأساءوا إليهم في كل حال وكتبوا صحيفة القطيعة مع بني هاشم .
وفيها الثناء على المؤمنين بأنهم يصلون الأرحام ولم يقطعوا أرحام قومهم المشركين إلا عندما حاربوهم وناووهم .
وقوله : { أن يوصل } بدل من ضمير { به } ، أي ما أمر الله بوصله . وجيء بهذا النظم لزيادة تقرير المقصود وهو الأرحام بعد تقريره بالموصولية .
والخشية : خوف بتعظيم المخوف منه وتقدمت في قوله تعالى : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } في سورة البقرة ( 45 ) . وتطلق على مطلق الخوف .
والخوف : ظن وقوع المضرة من شيء . وتقدم في قوله تعالى : { إلا أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله } في سورة البقرة ( 229 ) .
و{ سوء الحساب } ما يحفّ به مما يسوء المحاسَب ، وقد تقدم آنفاً ، أي يخافون وقوعه عليهم فيتركون العمل السيّء .
وجاءت الصلات { الذين يوفون } و { الذين يصلون } وما عطف عليهما بصيغة المضارع في تلك الأفعال الخمسة لإفادة التجدد كناية عن الاستمرار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين يصلون ما أمر الله أن يوصل}، من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والنبيين والكتب كلها، {ويخشون ربهم} في ترك الصلة، {ويخافون سوء الحساب} يعني شدة الحساب حين لا يتجاوز عن شيء من ذنوبهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَالّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ" يقول تعالى ذكره: والذين يصلون الرحم التي أمرهم الله بوصلها فلا يقطعونها، "ويَخْشَوْنَ رَبّهُمْ "يقول: ويخافون الله في قطعها أن يقطعوها، فيعاقبهم على قطعها وعلى خلافهم أمره فيها. وقوله: "ويَخافُونَ سُوءَ الحِسابِ" يقول: ويحذرون مناقشة الله إياهم في الحساب، ثم لا يصفح لهم عن ذنب، فهم لرهبتهم ذلك جادّون في طاعته محافظون على حدوده...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) الصلات التي أمر الله بها أن توصل على جهات ومراتب؛ أما بينه وبين المؤمنين فألا يحب لهم إلا ما يحب، ولا يصحبهم إلا بما يحب هو أن يصحب. وأما في ما بينه وبين محارمه فأن يؤدي ويحفظ الحقوق التي جعل الله لبعضهم على بعض، ولا يضيعها. وأما في ما بينه وبين الرسل فهو أن من حقهم أن يوصل الإيمان بالنبيين جميعا والكتب كلها...
(ويخشون ربهم) إما في التقصير في ما أمر أن يوصل وإما بالتفريط في ذلك وترك الصلة.
(ويخافون سوء الحساب) أي شدة الحساب...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} قيل أراد الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يعترفون بها. وقال أكثر المفسرين: يعني الرحم ويقطعونها...
الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: اشتكى أبو الدرداء فعاده عبد الرحمن بن عوف. فقال: خيرّهم أو صلهم ما علمت يا محمد. فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قال الله تبارك وتعالى: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته"...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الرحم التي أمرهم الله تعالى بوصلها. {ويخشون ربهم} في قطعها {ويخافون سُوءَ الحساب} في المعاقبة عليها، قاله قتادة. الثاني: صلة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن. الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب كلها، قاله سعيد بن جبير. ويحتمل رابعاً: أن يصلوا الإيمان بالعمل...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذه الآية عطف على الاولى، وهي من صفة الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون ميثاقه، وأنهم مع ذلك "يصلون ما أمر الله به أن يوصل"...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الذين يَصِلون الإيمان به بالإيمان بالأنبياء والرسل. ويقال الذين يصلون أنفاسَهم بعضاً ببعض؛ فلا يتخلَّلُها نَفَسٌ لغير الله، ولا بغير الله، ولا في شهود غير الله. ويقال يَصِلُون سَيْرَهم بِسُرَاهم في إقامة العبودية، والتبرِّي من الحول والقوة. {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}: الخشية لجامٌ يُوقفُ المؤمنَ عن الرَّكْضِ في ميادين الهوى، وزِمامٌ يَجُرُّ إلى استدامة حكم التُّقَى. {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} هو أن يبدو من الله ما لم يكونوا يحتسبون...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} من الأرحام والقرابات، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم. ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، وكل ما تعلق منهم بسبب، حتى الهرة والدجاجة...
{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي يخشون وعيده كله {وَيَخَافُونَ} خصوصاً {سُوء الحِسَابِ} فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وصل ما أمر الله به أن يوصل: ظاهره في القرابات وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات.
و {سوء الحساب} هو أن يتقصى ولا تقع فيه مسامحة ولا تغمد...
{والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} وههنا سؤال: وهو أن الوفاء بالعهد وترك نقض الميثاق اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات فما الفائدة في ذكر هذه القيود المذكورة بعدهما؟ والجواب من وجهين:
الأول: أنه ذكر لئلا يظن ظان أن ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فلا جرم أفرد ما بينه وبين العباد بالذكر.
حاصل الكلام: أن قوله: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} إشارة إلى الشفقة على خلق الله...
{ويخشون ربهم} والمعنى: أنه وإن أتى بكل ما قدر عليه في تعظيم أمر الله، وفي الشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستوليا على قلبه وهذه الخشية نوعان:
أحدهما: أن يكون خائفا من أن يقع زيادة أو نقصان أو خلل في عباداته وطاعاته، بحيث يوجب فساد العبادة أو يوجب نقصان ثوابها.
والثاني: وهو خوف الجلال وذلك لأن العبد إذا حضر عند السلطان المهيب القاهر فإنه وإن كان في غير طاعته إلا أنه لا يزول عن قلبه مهابة الجلالة والرفعة والعظمة...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
{ويخشون ربهم} يعني أنهم مع وفائهم بعهد الله وميثاقه والقيام بما أمر الله به من صلة الرحم يخشون ربهم، والخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي: فيما يأتون وما يذرون من الأعمال، يراقبون الله في ذلك، ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان أمر الله جارياً على منهاج العقل وإن كان قاصراً عنه لا يمكن نيله له من غير مرشد، قال: {والذين يصلون} أي من كل شيء على سبيل الاستمرار {ما أمر الله} أي الذي له الأمر كله؛ وقال: {به أن يوصل} دون "يوصله "ليكون مأموراً بوصله مرتين، ويفيد تجديد الوصل كلما قطعه قاطع على الاستمرار لما تظافر على ذلك من دليلي العقل والنقل؛ والوصل: ضم الثاني إلى الأول من غير فرج. ولما كان الدليل يرشد إلى أن الله تعالى مرجو مرهوب قال: {ويخشون ربهم} أي المحسن إليهم، من أن ينتقم منهم إن خالفوا بقطع الإحسان. ولما كان العقل دالاً بعد تنبيه الرسل على القدرة على المعاد بالقدرة على المبدأ، وكان الخوف منه أعظم الخوف، قال تعالى: {ويخافون} أي يوجدون الخوف إيجاداً مستمراً {سوء الحساب} وهو المناقشة فيه من غير عفو، ومن أول السورة إلى هنا تفصيل لقوله تعالى أول البقرة {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة:1] مع نظيره إلى قوله آخر يوسف {ما كان حديثاً يفترى} [يوسف:111]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هكذا في إجمال. فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه. أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة، والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء. لهذا ترك الأمر مجملا، ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل، لأن هذا التفصيل يطول، وهو غير مقصود، إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي، والطاعة المطلقة التي لا تتفلت، والصلة المطلقة التي لا تنقطع.. ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة: (ويخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب)...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وذكر الله تعالى لهم ثلاثة أوصاف: وصف يتعلق بالصلاة الاجتماعية التي بها يقوم بناء اجتماعي سليم يبتدئ من الأسرة بمعناها الممتد الذي يشمل القرابة جميعها قريبة كانت أم بعيدة، ويشمل المجتمع الصغير، ومجتمع المدينة، ثم الدولة، ثم المجتمع الإنساني، وهذا هو الوصف الأول {الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل}. والوصف الثاني نفسي، وهو أساس البناء الاجتماعي الفاضل، ورمز الله تعالى إليه بقوله تعالت كلماته: {ويخشون ربهم}، أي يخافون الله تعالى في كل عمل يعملونه، فلا يطغون، ولا يظلمون، ولا ينقصون الناس حقوقهم، فمن خشى الله تعالى يتذكره في كل عمل يعمله في ذات نفسه، وفي أهله وبينه وبين الناس. والوصف الثالث: الإيمان بأنه يحاسب عليه، وقد ذكره سبحانه بقوله تعالى: {ويخافون سوء الحساب}، وخوف الحساب يتضمن الإيمان بالبعث والنشور، ولقاء الله تعالى يوم القيامة أولا، وأنه سيحاسب على ما كان في الدنيا ثانيا. ويتضمن ترجيح الخوف على الرجاء، وأنه يخشى السوء قبل أن يرجو الثواب. ثالثا: فهو يستقل ما قدمه من خير، ويستكثر دائما ما وقع فيه من هفوات، وهذا شأن الأبرار، يستقلون ما يفعلون من خير، ويستكثرون ما يقع منهم من هفوات...
خوف سوء الحساب، فهو خوف نتائج السر الذي كان في الدنيا...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وثاني صفة وصف الله بها من أراد أن يكون من أولي الألباب صفة الحنان والمروءة ورقة الشعور، التي تتجلى في سلوكهم العام، ولاسيما في صلة الأرحام، وبذل المعروف للفقراء والمحتاجين والعطف عليهم، مما يعين على إقامة مجتمع متحاب فاضل ومتكافل، وإلى هذه الصفة يشير قوله تعالى هنا {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل}. وثالث صفة وصف الله بها أولي الألباب أن يكون لهم وجدان حي، قوي الحساسية، عميق الشعور، بحيث يراقبون الله في أعمالهم كل المراقبة، ويحرصون على الاستقامة في أحوالهم كل الحرص، سواء ما كان منها خصوصيا أو عموميا، وإلى هذه الصفة يشير قوله تعالى هنا: {ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} من العلاقات الإنسانية على مستوى الأرحام والجيران والمؤمنين، والمستضعفين الذين يحتاجون إلى الرعاية. أما كيفية الصلة، فلا يمكن تحديدها في أسلوب أو وسيلة، بل تشمل كل الإمكانات التي تجلب لهم النفع وتدفع عنهم الضرر، وتسهّل لهم سبل الحياة، وترفع مستواهم في كل جوانب المعرفة والعمل. وعلى ضوء ذلك، نستوحي أن المؤمنين لا يعيشون اللاّمبالاة والعزلة عن الناس من حولهم، بل يلتصقون بالمجتمع من موقع المسؤولية التي فرضها الله على الناس في التواصل والتبادل والتراحم والتعاطف، الذي يجعل الحياة وحدةً روحيةً وعمليةً على طريق الله.
{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}، فيدفعهم خوفهم من الله إلى الالتزام بأوامره ونواهيه، ومراقبته في كل شيءٍ في السرّ والعلانية، ويقودهم خوفهم من الحساب الدقيق الذي يلاحق كل أعمالهم السيئة بالتدقيق والمحاسبة، إلى الانضباط في خط السير، فلا ينحرفون تحت تأثير شهوةٍ، ولا يسقطون تحت رحمة نزوة، بل يتوازنون في موقفهم الإيماني أمام المسؤولية...