{ وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ }أي : بينا لهم الحجج ، ووضَّحنا لهم الأدلة - كما قال قتادة : أزحنا{[21536]} عنهم الأعذار - { وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا } أي : أهلكنا إهلاكاً ، كقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17 ] .
والقرن : هو الأمة من الناس ، كقوله : { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ } [ المؤمنون : 31 ] وحدَّه بعضهم{[21537]} بمائة وعشرين سنة . وقيل : بمائة سنة . وقيل : بثمانين سنة . وقيل : أربعين . وقيل غير ذلك . والأظهر : أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد ؛ فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهم قرن ثان ، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " الحديث .
وقوله وكُلاً ضَرَبْنا لَهُ الأَمْثالَ يقول تعالى ذكره : وكل هذه الأمم التي أهلكناها التي سميناها لكم أو لم نسمها ضربنا له الأمثال ، يقول : مثلنا له الأمثال ونبهناها على حججنا عليها ، وأعذرنا إليها بالعبر والمواعظ ، فلم نهلك أمة إلا بعد الإبلاغ إليهم في المعذرة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : وكُلاً ضَرَبْنا لَهُ الأَمْثالَ قال : كلّ قد أعذر الله إليه ، ثم انتقم منه .
وقوله : وكُلاّ تَبّرْنَا تَتْبِيرا يقول تعالى ذكره : وكل هؤلاء الذين ذكرنا لكم أمرهم استأصلناهم ، فدمرناهم بالعذاب إبادة ، وأهلكناهم جميعا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : وكُلاّ تَبّرْنا تَتْبِيرا قال : تبر الله كلاً بعذاب تتبيرا .
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبير وكُلاّ تَبّرْنا تَتْبِيرا قال : تتبير بالنبطية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قوله : وكُلاّ تَبّرْنا تَتْبِيرا قال : بالعذاب .
التنوين في { كُلاًّ } تنوين عوض عن المضاف إليه . والتقدير : وكلَّهم ضربنا له الأمثال وانتصب { كُلاّ } الأول بإضمار فعل يدل عليه { ضربنا له } تقديره : خاطبنا أو حذَّرنا كُلاًّ وضربنا له الأمثال ، وانتصب { كُلاًّ } الثاني بإضمار فعل يدل عليه { تبرنا } وكلاهما من قبيل الاشتغال .
والتتبير : التفتيت للأجسام الصلبة كالزجَاج والحديد . أطلق التتبير على الإهلاك على طريقة الاستعارة تبعيةً في { تبرنا } وأصلية في { تتبيراً } ، وتقدم في قوله تعالى : { إن هؤلاء متبّر ما هم فيه } في سورة الأعراف ( 139 ) ، وقوله : { وليُتَبِّروا ما علَوْا تتبيراً } في سورة الإسراء ( 7 ) . وانتصب { تتبيراً } على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة هذا الإهلاك .
ومعنى ضرب الأمثال : قولها وتبيينها وتقدم عند قوله تعالى : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما } في سورة البقرة ( 26 ) .
والمَثَل : النظير والمشابه ، أي بيّنا لهم الأشباه والنظائر في الخير والشر ليعرضوا حال أنفسهم عليها . قال تعالى : { وسَكَنْتُم في مَساكِن الذين ظَلَموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعَلْنا بهم وضربنا لكم الأمثال } [ إبراهيم : 45 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا}، وكلا دمرنا بالعذاب تدميرا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله "وكُلاً ضَرَبْنا لَهُ الأَمْثالَ "يقول تعالى ذكره: وكل هذه الأمم التي أهلكناها التي سميناها لكم أو لم نسمها "ضربنا له الأمثال"، يقول: مثلنا له الأمثال ونبهناها على حججنا عليها، وأعذرنا إليها بالعبر والمواعظ، فلم نهلك أمة إلا بعد الإبلاغ إليهم في المعذرة...
وقوله: "وكُلاّ تَبّرْنَا تَتْبِيرا" يقول تعالى ذكره: وكل هؤلاء الذين ذكرنا لكم أمرهم استأصلناهم، فدمرناهم بالعذاب إبادة، وأهلكناهم جميعا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي ذكرنا لأهل مكة أمثال من تقدم منهم من الأمم، من المكذبين والمصدقين وما حل بهم، وما إليه آلت عاقبة أمورهم بالتكذيب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وكلا تبرنا تتبيرا" أي أهلكنا كلا منهم إهلاكا. والتتبير: تكبير الإهلاك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ضَرَبْنَا لَهُ الامثال}: بينا له القصص العجيبة من قصص الأوّلين، ووصفنا لهم ما أجروا إليه من تكذيب الأنبياء، وجرى عليهم من عذاب الله وتدميره. والتتبير: التفتيت والتكسير. ومنه: التبر، وهو كسار الذهب والفضة والزجاج.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قدم سبحانه أنه يأتي في هذا الكتاب بما هو الحق في جواب أمثالهم، بين أنه فعل بالجميع نحو من هذا، فقال تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتأسية وبياناً لتشريفه بالعفو عن أمته: {وكلاًّ} أي من هذه الأمم {ضربنا} بما لنا من العظمة {له الأمثال} حتى وضح له السبيل، وقام -من غير شبهة- الدليل {وكلاًّ تبرنا تتبيراً} أي جعلناهم فتاتاً قطعاً بليغة التقطيع، لا يمكن غيرنا أن يصلها ويعيدها إلى ما كانت عليه قبل التفتيت.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتتبير: التفتيت للأجسام الصلبة كالزجَاج والحديد...
ومعنى ضرب الأمثال: قولها وتبيينها...
والمَثَل: النظير والمشابه، أي بيّنا لهم الأشباه والنظائر في الخير والشر ليعرضوا حال أنفسهم عليها. قال تعالى: {وسَكَنْتُم في مَساكِن الذين ظَلَموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعَلْنا بهم وضربنا لكم الأمثال} [إبراهيم: 45].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لكننا لم نجاز أولئك على غفلة أبداً، بل (وكلاّ ضربنا له الأمثال). أجبنا على إشكالاتهم، مثل الإِجابة على الإِشكالات التي يوردونها عليك، وبينّا لهم الأحكام الإِلهية وحقائق الدين. أخطرناهم، أنذرناهم، كررنا عليهم مصائر وقصص الماضين، لكن حين لم ينفع أيُّ من ذلك أهلكناهم ودمّرناهم تدميراً: (وكلا تّبرنا تتبيراً).