قوله تعالى : { رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق } أي : مطالع الشمس . فإن قيل : قد قال في موضع { رب المشارق والمغارب } وقال في موضع : { رب المشرقين ورب المغربين } وقال في موضع : { رب المشرق والمغرب } فكيف وجه التوفيق بين هذه الآيات ؟ قيل : أما قوله{ رب المشرق والمغرب } أراد به جهة المشرق وجهة المغرب ، وقوله{ رب المشرقين ورب المغربين } أراد مشرق الشتاء ومشرق الصيف ، وأراد بالمغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف ، وقوله : { برب المشارق والمغارب } أراد الله تعالى أنه خلق للشمس ثلاثمائة وستين كوة في المشرق ، وثلاثمائة وستين في المغرب ، على عدد أيام السنة ، تطلع الشمس كل يوم من كوة منها ، وتغرب في كوة منها ، لا ترجع إلى الكوة التي تطلع الشمس منها من ذلك اليوم إلى العام المقبل ، فهي المشارق والمغارب ، وقيل : كل موضع أشرقت عليه الشمس فهو مشرق ، وكل موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب . كأنه أراد رب جميع ما أشرقت عليه الشمس وغربت .
{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } أي : هو الخالق لهذه المخلوقات ، والرازق لها ، المدبر لها ، . فكما أنه لا شريك له في ربوبيته إياها ، فكذلك لا شريك له في ألوهيته ، . وكثيرا ما يقرر تعالى توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية ، لأنه دال عليه . وقد أقر به أيضا المشركون في العبادة ، فيلزمهم بما{[759]} أقروا به على ما أنكروه .
ثم يعرف الله عباده بنفسه في صفته المناسبة للوحدانية :
( رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ) . .
وهذه السماوات والأرض قائمة حيال العباد ؛ تحدثهم عن الخالق البارى ء المدبر لهذا الملكوت الهائل ؛ الذي لا يدعي أحد أنه يملك خلقه وتدبيره ؛ ولا يملك أحد أن يهرب من الاعتراف لخالقه بالقدرة المطلقة والربوبية الحقة . ( وما بينهما ) . . من هواء وسحاب ، وضوء ونور ، ومخلوقات دقيقة يعرف البشر شيئاً منها الحين بعد الحين ، ويخفى عليهم منها أكثر مما يكشف لهم !
والسماوات والأرض وما بينهما من الضخامة والعظمة والدقة والتنوع والجمال والتناسق بحيث لا يملك الإنسان نفسه أمامها - حين يستيقظ قلبه - من التأثر العميق ، والروعة البالغة ، والتفكر الطويل . وما يمر الإنسان بهذا الخلق العظيم من غير ما تأثر ولا تدبر إلا حين يموت قلبه ، فيفقد التأثر والاستجابة لإيقاعات هذا الكون الحافل بالعجائب .
ولكل نجم مشرق ، ولكل كوكب مشرق ، فهي مشارق كثيرة في كل جانب من جوانب السماوات الفسيحة . . وللتعبير دلالة أخرى دقيقة في التعبير عن الواقع في هذه الأرض التي نعيش عليها كذلك . فالأرض في دورتها أمام الشمس تتوالى المشارق على بقاعها المختلفة - كما تتوالى المغارب - فكلما جاء قطاع منها أمام الشمس كان هناك مشرق على هذا القطاع ، وكان هناك مغرب على القطاع المقابل له في الكرة الأرضية . حتى إذا تحركت الأرض كان هناك مشرق آخر على القطاع التالي ومغرب آخر على القطاع المقابل له وهكذا . . وهي حقيقة ما كان يعرفها الناس في زمان نزول القرآن الكريم ؛ ولكن خبرهم بها الله في ذلك الزمان القديم !
وهذا النظام الدقيق في توالي المشارق على هذه الأرض . وهذا البهاء الرائع الذي يغمر الكون في مطالع المشارق . . كلاهما جدير بأن يوقع في القلب البشري من التأثرات الموحية ، ما يهتف به إلى تدبر صنعة الصانع المبدع ، وإلى الإيمان بوحدانية الخالق المدبر ، بما يبدو من آثار الصنعة الموحدة التي لا اختلاف في طابعها الدقيق الجميل .
تلك هي مناسبة ذكر هذه الصفة من صفات الله الواحد في هذا المقام . وسنرى أن ذكر السماء وذكر المشارق له مناسبة أخرى فيما يلي هذه الآيات من السورة . عند الحديث عن الكواكب والشهب والشياطين والرجوم . .
{ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : من المخلوقات ، { وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } أي : هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب{[24915]} ثوابت ، وسيارات تبدو من المشرق ، وتغرب من المغرب . واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه . وقد صرح بذلك في قوله : { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ } [ المعارج : 40 ] . وقال في الآية الأخرى : { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } [ الرحمن : 17 ] يعني في الشتاء والصيف ، للشمس والقمر .
وقوله : رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما يقول : هو واحد خالق السموات السبع وما بينهما من الخلق ، ومالك ذلك كله ، والقيّمِ على جميع ذلك ، يقول : فالبعادة لا تصلح إلا لمن هذه صفته ، فلا تعبدوا غيره ، ولا تشركوا معه في عبادتكم إياه من لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يخلق شيئا ولا يُفْنيه .
واختلف أهل العربية في وجه رفع ربّ السموات ، فقال بعض نحوييّ البصرة : رُفع على معنى : إن إلهكم لربّ . وقال غيره : هو رَدّ على إن إلهكم لواحد ثم فَسّر الواحد ، فقال : ربّ السموات ، وهو ردّ على واحد . وهذا القول عندي أشبه بالصواب في ذلك ، لأن الخبر هو قوله : لَوَاحِدٌ ، وقوله : رَبّ السّمَوَاتِ ترجمة عنه ، وبيان مردود على إعرابه .
وقوله : وَرَبّ المَشارِقِ يقول : ومدبر مشارق الشمس في الشتاء والصيف ومغاربها ، والقيّم على ذلك ومصلحه وترك ذكر المغارب لدلالة الكلام عليه ، واستغني بذكر المشارق من ذكرها ، إذ كان معلوما أن معها المغارب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ وقع القسم على هذا إن إلهكم لواحد رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبّ المَشارِقِ قال : مشارق الشمس في الشتاء والصيف .
حدثني محمد بن الحسين ، قلا : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : رَبّ المَشارِقِ قال : المشارق ستون وثلاثُ مئة مَشْرِق ، والمغارب مثلها ، عدد أيام السنة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عظم نفسه عن شركهم يقول: أنا رب ما بينهما من شيء من الآلهة وغيرها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما" يقول: هو واحد خالق السموات السبع وما بينهما من الخلق، ومالك ذلك كله، والقيّمِ على جميع ذلك، يقول: فالعبادة لا تصلح إلا لمن هذه صفته، فلا تعبدوا غيره، ولا تشركوا معه في عبادتكم إياه من لا يضرّ ولا ينفع، ولا يخلق شيئا ولا يُفْنيه...
وقوله: "وَرَبّ المَشارِقِ "يقول: ومدبر مشارق الشمس في الشتاء والصيف ومغاربها، والقيّم على ذلك ومصلحه، وترك ذكر المغارب لدلالة الكلام عليه، واستغني بذكر المشارق من ذكرها، إذ كان معلوما أن معها المغارب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخبر عن وحدانيته وتفرّده حين أنشأ السماوات وما ذكر، وجعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بُعد ما بينهما، ومنافع المشارق متصلة بمنافع المغارب على بعد ما بينهما، ثم تخصيص ذكر السماوات والأرض وما ذكر دون غيره من الخلائق لما عظّم قدر السماء في قلوبهم لنزول ما ينزل من الأمطار والبركات وغيرها، وعظّم قدر الأرض بخروج ما يخرج منها من الأنزال والأرزاق، ولذلك يخرّج ذكرهما.
يشبه أن يكون أراد بالمشارق والمغارب كل شيء يشرق وكل شيء غارب بين الشمس والقمر والنجوم والكواكب [وعلى ذلك] يخرّج قوله: {رب المشرقين ورب المغربين} [الرحمان: 17].
فإن قيل لم أكتفي بذكر المشارق؟ قلنا لوجهين:... الثاني أن الشرق أقوى حالا من الغروب وأكثر نفعا من الغروب؛ فذكر الشرق تنبيها على كثرة إحسان الله تعالى على عباده، ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم عليه السلام بالمشرق فقال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هو الخالق لهذه المخلوقات، والرازق لها، المدبر لها، فكما أنه لا شريك له في ربوبيته إياها، فكذلك لا شريك له في ألوهيته،. وكثيرا ما يقرر تعالى توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية، لأنه دال عليه، وقد أقر به أيضا المشركون في العبادة، فيلزمهم بما أقروا به على ما أنكروه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه السماوات والأرض قائمة حيال العباد؛ تحدثهم عن الخالق البارى ء المدبر لهذا الملكوت الهائل؛ الذي لا يدعي أحد أنه يملك خلقه وتدبيره؛ ولا يملك أحد أن يهرب من الاعتراف لخالقه بالقدرة المطلقة والربوبية الحقة.
(وما بينهما).. من هواء وسحاب، وضوء ونور، ومخلوقات دقيقة يعرف البشر شيئاً منها الحين بعد الحين، ويخفى عليهم منها أكثر مما يكشف لهم! والسماوات والأرض وما بينهما من الضخامة والعظمة والدقة والتنوع والجمال والتناسق بحيث لا يملك الإنسان نفسه أمامها -حين يستيقظ قلبه- من التأثر العميق، والروعة البالغة، والتفكر الطويل.
وما يمر الإنسان بهذا الخلق العظيم من غير ما تأثر ولا تدبر إلا حين يموت قلبه، فيفقد التأثر والاستجابة لإيقاعات هذا الكون الحافل بالعجائب.
(ورب المشارق)..وهذا النظام الدقيق في توالي المشارق على هذه الأرض، وهذا البهاء الرائع الذي يغمر الكون في مطالع المشارق.. كلاهما جدير بأن يوقع في القلب البشري من التأثرات الموحية، ما يهتف به إلى تدبر صنعة الصانع المبدع، وإلى الإيمان بوحدانية الخالق المدبر، بما يبدو من آثار الصنعة الموحدة التي لا اختلاف في طابعها الدقيق الجميل، تلك هي مناسبة ذكر هذه الصفة من صفات الله الواحد في هذا المقام.
{رَّبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}
{لَهُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ} [طه: 6] وهذا الذي تحت الثرى هو الذي يحتاج مِنّا إلى بحث لنصل إليه ونكتشفه ونُخرجه كما قلنا من عالم الملكوت إلى عالم الملْك.
هنا قال {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5]، وفي موضع آخر قال:
{بِرَبِّ الْمَشَٰرِقِ وَالْمَغَٰرِبِ} [المعارج: 40] إذن: الحق سبحانه يُبْقي لألمحية الالتقاط الذهني من الألفاظ موضعاً، فما دام هناك مشارق إذن لابد أنْ يقابلها مغارب؛ لأن الشمس لا تشرق على قوم إلا وتغرب عن آخرين، إذن: عرفناها باللزوم.
وحين نستعرض هاتين الكلمتين في كتاب الله نجد أنهما تأتيان مرة بصيغة المفرد
{رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل: 9]، وتأتي بصيغة المثنى
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]، وتأتي بصيغة الجمع
{بِرَبِّ الْمَشَٰرِقِ وَالْمَغَٰرِبِ} [المعارج: 40].
ذلك لأنه إذا خاطب الإنسان الواحد في المكان الواحد قال المشرق والمغرب، لأن لكل مكان مشرقاً ومغرباً، فإنْ تعدَّدتْ الأماكن تعددت المشارق والمغارب، فنحن مثلاً في القطر الواحد نلاحظ أن مغرب القاهرة غير مغرب الأسكندرية، فإذا نظرنا إلى كل الأمكنة في الكرة الأرضية علمنا أن المشارق والمغارب لا تتناهى، ففي كل نصف ثانية مشرق ومغرب.
لذلك قلنا: من حكمة الخالق سبحانه في دورة الأرض حول نفسها، وحول الشمس أنها تُوزع مقومات الحياة في الكون كله، فلو ظَلَّتْ الشمس مواجهةً لمكان واحد لاحترق، ولو ظلَّتْ غائبة عن مكان لَتجمَّد. ونتيجة هذه الحركة يظل الحق سبحانه معبوداً في كل أوان بكل عبادة، كما سبق أن أوضحنا أنه في اللحظة الواحدة يُصلَّى الصبح عند قوم، والظهر عند آخرين، والعصر عند آخرين، والمغرب والعشاء، وهكذا على مَدار اليوم والليلة.
أما قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] قالوا: المشرقان يعني: المشرق والمغرب، أو مشرق الصيف ومشرق الشتاء.