فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَرَبُّ ٱلۡمَشَٰرِقِ} (5)

{ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } جواب القسم أي : أقسم الله بهذه الأقسام أنه واحد ليس له شريك وأجاز الكسائي : فتح إن الواقعة في جواب القسم وإنما أقسم بهذه الأشياء للتنبيه على شرف ذواتها وكمال مراتبها ، والرد على عبدة الأصنام في قولهم ، وللتأكيد لما تقدم لاسيما والقرآن أنزل بلغة العرب ، وإثبات المطالب بالحلف واليمين وطريقة مألوفة عندهم ، قال ابن الأنباري : الوقف على ( لواحد ) وقف حسن ثم يبتدئ { رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } على معنى هو ربهما ، وقيل : غير ذلك ، والمعنى في الآية : إن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته وأنه رب ذلك كله ، أي خالقه ومالكه .

{ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي من المخلوقات والكائنات .

{ وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } أعاد الرب فيها لما فيها من غاية ظهور آثار الربوبية وتجددها كل يوم ، قيل : أراد مشارق الكواكب ، والظاهر أنها مشارق الشمس ، قيل : إن الله خلق للشمس كل يوم مشرقا ومغربا بعدد أيام السنة تطلع كل يوم من واحد منها ، وتغرب في واحد ، كذا قال ابن الأنباري وابن عبد البر ، وأما قوله في سورة الرحمن { رب المشرقين ورب المغربين } فالمراد بالمشرقين أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال ، وأقصر يوم في الأيام القصار ، وكذلك في المغربين .

وأما ذكر المشرق والمغرب بالإفراد فالمراد بهما الجهة التي تشرق منها الشمس والجهة التي تغرب فيها ، واقتصر على المشارق اكتفاء على حد : { سرابيل تقيكم الحر } أي والمغارب للشمس ، ولم يعكس لأن شروق الشمس سابق على غروبها ، وأيضا فالشروق أبلغ في النعمة وأكثر نفعا من الغروب ، فذكر المشرق تنبيها على كثرة إحسان الله تعالى على عباده ، ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم عليه السلام بالمشرق فقال : { إن الله يأتي بالشمس من المشرق } .

قال الكرخي : وجمع هنا المشرق وحذف مقابله وثناه في الرحمن وجمعه في المعارج وأفراده في المزمل مع ذكر مقابله في الثلاثة لأن القرآن نزل على المعهود من أساليب كلام العرب وفنونه ، ومنها الإجمال والتفصيل والذكر والحذف والتثنية والجمع ، والإفراد باعتبارات مختلفة ، فأفرد وأجمل في المزمل أراد مشرق الصيف والشتاء ومغربهما ، وجمع وفصل في المعارج ، أراد جميع مشارق السنة ومغاربها ، وهي تزيد على سبعمائة ، وثنى وفصل في الرحمن أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما ، وجمع وحذف هنا أراد جميع مشارق السنة ، واقتصر عليه لدلالته على المحذوف كما مرت الإشارة إليه ، وخص ما هنا بالجمع موافقة للجموع أول السورة ، وبالحذف مناسبة للزينة إذ هي إنما تكون غالبا بالضياء والنور ، وهما ينشآن من المشرق لا من المغرب وما في الرحمن بالتثنيه موافقة للتثنيه في { يسجدان } وفي : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } .

وبذكر المقابلين موافقة لبسط صفاته تعالى وإنعاماته ثم ، وما في المعارج بالجمع موافقة للجمع قبله وبعده ، وبذكر المقابلين موافقة لكثرة التأكيد في القسم وجوابه ، وما في المزمل بالإفراد موافقة لما قبله من إفراد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده ، من إفراد ذكر الله تعالى ، وبذكر المقابلين موافقة للحصر في قوله : لا إله إلا هو ، ولبسط أوامر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ثمة .