السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَرَبُّ ٱلۡمَشَٰرِقِ} (5)

{ رب } أي : موجد ومالك ومدبر { السماوات } أي : الأجرام العالية { والأرض } أي : الأجرام السافلة { وما بينهما } أي : من الفضاء المشحون بما يعجز عن عده القوي ، وذلك ؛ لأنه تعالى بين في قوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } ( الأنبياء : 22 ) أن انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحد فههنا لما قال { إن إلهكم لواحد } أردفه بقوله { رب السماوات والأرض وما بينهما } كأنه قيل : بينا أن النظر في انتظام هذا العالم يدل على أن الإله واحد فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد .

تنبيه : علم من قوله تعالى { وما بينهما } أنه تعالى خالق لأعمال العباد ؛ لأن أعمالهم موجودة فيما بين السماء والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السماء والأرض ، فالله ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله تعالى ، فإن قيل : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السماء والأرض ؛ لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك ؟ أجيب : بأنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السماوات والأرض { ورب المشارق } أي : والمغارب وجمعها باعتبار جميع السنة فإن الله تعالى خلق للشمس ثلاث مئة وستين كوة في المشرق وثلاثمائة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة ، تطلع الشمس كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل .

وقيل : كل موضع أشرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه فهو مغرب كأنه أراد جميع ما أشرقت عليه الشمس .

وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب ومغاربها ؛ لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً ، فإن قيل : إن الله تعالى قال في موضع { رب المشرق والمغرب } ( الشعراء : 28 ) وقال في موضع آخر { رب المشرقين ورب المغربين } ( الرحمان : 17 ) فما الجمع بين هذه المواضع ؟ أجيب : بأن المراد بقوله { رب المشرق والمغرب } الجهة فالمشرق جهة والمغرب جهة وبقوله تعالى : { رب المشرقين ورب المغربين } مشرقا الشتاء والصيف ومغربا الشتاء والصيف وأما موضع الجمع فقد مر . فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق ؟ أجيب : بوجهين .

الأول : أنه اكتفى به كقوله تعالى { تقيكم الحرَّ } ( النحل : 81 ) .

والثاني : أن الشروق أقوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً منه فذكر المشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم خليل الرحمان عليه السلام بقوله { إن الله يأتي بالشمس من المشرق } ( البقرة : 258 ) .