قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } . أي في طاعة الله أعداء الله .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله سميع عليم } . قال أكثر أهل التفسير : هذا خطاب للذين أحيوا ، أمروا بالقتال في سبيل الله فخرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا ، وقيل : الخطاب لهذه الأمة ، أمرهم بالجهاد .
ثم أمر تعالى بالقتال في سبيله ، وهو قتال الأعداء الكفار لإعلاء كلمة الله ونصر دينه ، فقال : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } أي : فأحسنوا نياتكم واقصدوا بذلك وجه الله ، واعلموا أنه لا يفيدكم القعود عن القتال شيئا ، ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم ، فليس الأمر كذلك ، ولهذا ذكر القصة السابقة توطئة لهذا الأمر ، فكما لم ينفع الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت خروجهم ، بل أتاهم ما حذروا من غير أن يحتسبوا ، فاعلموا أنكم كذلك .
( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ) . .
هنا ندرك طرفا من هدف تلك الحادثة ومغزاها ؛ وندرك طرفا من حكمة الله في سوق هذه التجربة للجماعة المسلمة في جيلها الأول وفي أجيالها جميعا . . ألا يقعدن بكم حب الحياة ، وحذر الموت ، عن الجهاد في سبيل الله . فالموت والحياة بيد الله . قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى . وتحت راية الله لا تحت راية أخرى . . قاتلوا في سبيل الله :
( واعلموا أن الله سميع عليم ) . . يسمع ويعلم . . يسمع القول ويعلم ما وراءه . أو يسمع فيستجيب ويعلم ما يصلح الحياة والقلوب . قاتلوا في سبيل الله وليس هناك عمل ضائع عند الله ، واهب الحياة وآخذ الحياة .
القول في تأويل قوله : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : " وقاتلوا " ، أيها المؤمنون " في سبيل الله " ، يعني : في دينه الذي هداكم له ، لا في طاعة الشيطان أعداء دينكم ، الصادين عن سبيل ربكم ، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم ، ولا تجبنوا عن حربهم ، فإن بيدي حياتكم وموتكم . ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم ، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم ، فتذلوا ، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه ، كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، الذين قصصت عليكم قصتهم ، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري ، وحل بهم قضائي ، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه ، إذ دافعت عنهم مناياهم ، وصرفتها عن حوبائهم ، فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني ، فإن من حيي منكم فأنا أحييه ، ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله .
ثم قال تعالى ذكره لهم : واعلموا ، أيها المؤمنون ، أن ربكم " سميع " لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي : لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا= " عليم " بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم ، وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم ، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي .
يقول تعالى ذكره لعباده المؤمنين : فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي ، وغير ذلك من أمري ونهيي ، إذ كفر هؤلاء نعمي . واعلموا أن الله سميع لقولهم ، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، محيط بذلك كله ، حتى أجازي كلا بعمله ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا .
قال أبو جعفر : ولا وجه لقول من زعم أن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " ، أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال ، بعد ما أحياهم . لأن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " ، لا يخلو- إن كان الأمر على ما تأولوه- من أحد أمور ثلاثة :
- إما أن يكون عطفا على قوله : فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ، وذلك من المحال أن يميتهم ، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله .
- أو يكون عطفا على قوله : ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ، وذلك أيضا مما لا معنى له . لأن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " ، أمر من الله بالقتال ، وقوله : ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ، خبر عن فعل قد مضى . وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض ، لو كانا جميعا خبرين ، لاختلاف معنييهما . فكيف عطف الأمر على خبر ماض ؟
- أو يكون معناه : ثم أحياهم وقال لهم : قاتلوا في سبيل الله ، ثم أسقط " القول " ، كما قال تعالى ذكره : إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ، بمعنى يقولون : ربنا أبصرنا وسمعنا . وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه ، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر . فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه ، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها .
جملة : { وقاتلوا في سبيل الله } الآية هي المقصود الأول ، فإن ما قبلها تمهيد لها كما علمتَ ، وقد جعلت في النظم معطوفة على جملة { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } عطفاً على الاستئناف ، فيكون لها حكم جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، ولولا طول الفصل بينها وبين جملة { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [ البقرة : 216 ] ، لقُلنا : إنها معطوفة عليها على أن اتصال الغرضين يُلحقها بها بدون عطف .
وجملة { واعلموا أن الله سميع عليم } حث على القتال وتحذير من تركه بتذكيرهم بإحاطة علم الله تعالى بجميع المعلومات : ظاهرها وباطنها . وقدِّم وصف سميع ، وهو أخص من عليم ، اهتماماً به هنا ؛ لأن معظم أحوال القتال في سبيل الله من الأمور المسموعة ، مثل جلبة الجيش وقعقعة السلاح وصهيل الخيل . ثم ذكر وصف عليم لأنه يعم العلم بجميع المعلومات ، وفيها ما هو من حديث النفس مثل خلُق الخوف ، وتسويل النفس القعودَ عن القتال ، وفي هذا تعريض بالوعد والوعيد . وافتتاح الجملة بقوله : { واعلموا } للتنبيه على ما تحتوي عليه من معنى صريح وتعريض ، وقد تقدم قريباً عند قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 223 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.