التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (244)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ { 243 } وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ { 244 } مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { 245 } }

في الآيات تذكير بقصة جماعة من ألوف فروا من ديارهم خوفاً من الموت ، فلم يفدهم فرارهم شيئا ؛ حيث أماتهم الله دفعة واحدة ثم أحياهم ليعرفوا قدرته وفضله . فالله هو صاحب الأفضال على الناس ولو كان أكثرهم لا يشكرونه .

وأعقب القصة أمر موجه إلى المسلمين بالقتال في سبيل الله ، وتنبيه لهم على أن الله سميع لكل ما يقولونه عليم به . وحثّ لهم على إقراض الله قرضاً حسناً مما ينطوي فيه حثّ لهم على إنفاق المال في سبيل الله وتنويه بمن يفعل ذلك وبشرى بأن الله يرده إليه أضعافاً مضاعفة ، وتنبيه على أن بسط الرزق وقبضه بيد الله ، وأن مرجع الناس جميعاً إليه مما ينطوي فيه توكيد في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله أيضا .

تعليق على الآية

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ . . } الخ

وعلى الآيتين التاليتين لها

الآيات فصل جديد ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها ، الصلة ملموحة بين الآية الأولى والآيتين التاليتين لها على ما سوف نشرحه بعد ، وهذا ما جعلنا نعرضها معاً .

وقد روى المفسرون {[370]} أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس من مجالسه : من تصدّق فله مثلاه في الجنّة . فقال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله لي حديقتان إن تصدقت بإحداهما فإن لي مثليها في الجنة ؟ قال : نعم . قال : وأم الدحداح والصبية معي ؟ قال : نعم . فتصدق بأفضل حديقتيه فنزلت الآية . ولم نطلع على سبب نزول الآيتين اللتين قبلها ، والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل واحد منسجم ومتساوق المدى ، وقد احتوت الآية الأولى منها قصة بسبيل بيان أن الفرار من الموت لا يقي منه ، والثانية احتوت أمراً للمسلمين بالقتال مما ينطوي فيه تنبيه على عدم التهيب من ذلك خوفا من الموت . والثالثة احتوت حثا على الإنفاق في سبيل الله الذي هو من لوازم الجهاد وضروراته . ولا يمنع هذا أن تكون قصة أبي الدحداح صحيحة ، ولكن الأكثر احتمالاً واتساقاً مع نص الآية أن تكون وقعت بعد نزول الآيات حيث استجاب إلى ما فيها من حثّ وتشويق .

ولقد روى الطبري وغيره روايات متنوعة عن القصة المذكورة في الآية الأولى مختلفة الصيغ متفقة المدى . منها رواية عن ابن عباس أنها في صدد أربعة آلاف أو ثلاثين ألفا فروا من قريتهم من الوباء أو من الجهاد خوفا من الموت فأماتهم الله ، فمر عليم نبيّ فدعا الله أن يحييهم فأحياهم ليثبت لهم أن موتهم وحياتهم في يد الله وأمره . ومنها رواية عن أشعت بن أسلم البصري في سياق طويل لا يخلو من إغراب مفادها أن يهوديين أخبرا عمر بن الخطاب أن هذه قصة جماعة من بين إسرائيل خرجوا من مدينتهم ألوفاً حذر الموت من الوباء فأماتهم الله حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي لينادي عليهم ففعل فأحياهم الله تعالى .

ولقد ورد في الإصحاح 37 من سفر نبوءة حزقيل أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم خبر فيه بعض المشابهة لهذه القصة ؛ حيث يبدو أن مما كان يتداوله اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من قصصهم القديمة . والراجح أن سامعي القرآن من المسلمين أو بعضهم كان يعرفها من اليهود فاقتضت حكمة التنزيل تذكيرهم بها على سبيل تخفيف استشعارهم بالخوف من الموت وحضهم على القتال والإنفاق في سبيل الله مما ورد في الآيات في ظرف كان بعضهم يتهيب من ذلك أو يتلكأ فيه . ولقد احتوت الآيات [ 218 ، 262 ، 272 ] من سورة البقرة التي سبق تفسيرها إشارة ما إلى ذلك . والمتبادر أن بعضهم ظل مع ذلك يتهيب ويتكرر فاقتضت الحكمة معالجة الأمر مجددا في الآيات ، ولقد جاء بعد هذه الآيات فصل فيه قصة طلب بني إسرائيل تعيين ملك عليهم ليقاتلوا تحت لوائه أعداءهم ونكث أكثرهم عن ما قطعوه على أنفسهم من عهد القتال مما نرجح أنه سيق استطراداً لتدعيم أمر القتال والإنفاق الذي احتوته الآيات الثانية والثالثة كما هو شأن الآية الأولى . وبعبارة أخرى إنه جاء تدعيماً للمعالجة التي اقتضتها حكمة الله .

استطراد إلى الفرار من الوباء

لقد استطرد ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى إلى موضوع الفرار من الوباء وأورد حادثا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الشيخان عن ابن عباس جاء فيه : أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرْغٍ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام ، فقال عمر لابن عباس : ادعُ لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم فاختلفوا ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن نرجع عنه . وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال : ارتفعوا عني . ثم قال : ادع لي الأنصار . فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين في الاختلاف فقال : ارتفعوا عني . ثم قال : ادع لي من كان هنا من مشيخة قريشٍ من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء . فنادى عمر في الناس : إني مصبّحٌ على ظهرٍ فقال أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله ؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، وكان عمر يكره خلافه . نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا لها عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله . وجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيّباً في بعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه ، فحمد الله عمر بن الخطاب ثم انصرف » {[371]} . وفي الحديث تعليم صحيح نبوي بليغ يجب الالتزام به .


[370]:انظر تفسير ابن كثير والطبري والخازن
[371]:التاج 3/172-173