قال السدي : فلما سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع وأقبل عليهم . وقيل : لما أشارت إليه ترك الثدي واتكأ على يساره ، وأقبل عليهم وجعل يشير بيمينه : { قال إني عبد الله } ، وقال وهب : أتاها زكريا عند مناظرتها اليهود ، فقال لعيسى : انطق بحجتك إن كنت أمرت بها ، فقال عند ذلك عيسى عليه السلام وهو ابن أربعين يوماً - وقال مقاتل : بل هو يوم ولد - : إني عبد الله ، أقر على نفسه بالعبودية لله عز وجل أول ما تكلم لئلا يتخذ إلهاً ، { آتاني الكتاب وجعلني نبياً } ، قيل : معناه سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبياً . وقيل : هذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ ، كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : متى كنت نبياً ؟ قال : " { كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد } " . وقال الأكثرون أوتي الإنجيل وهو صغير طفل ، وكان يعقل عقل الرجال . وعن الحسن : أنه قال : ألهم التوراة وهو في بطن أمه .
فحينئذ قال عيسى عليه السلام ، وهو في المهد صبي : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ْ } فخاطبهم بوصفه بالعبودية ، وأنه ليس فيه صفة يستحق بها أن يكون إلها ، أو ابنا للإله ، تعالى الله عن قول النصارى المخالفين لعيسى في قوله { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ْ } ومدعون موافقته .
{ آتَانِيَ الْكِتَابَ ْ } أي : قضى أن يؤتيني الكتب { وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ْ } فأخبرهم بأنه عبد الله ، وأن الله علمه الكتاب ، وجعله من جملة أنبيائه ، فهذا من كماله لنفسه .
ولكن ها هي ذي الخارقة العجيبة تقع مرة أخرى :
قال : إني عبد الله ، آتاني الكتاب ، وجعلني نبيا ، وجعلني مباركا أينما كنت ، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .
وهكذا يعلن عيسى - عليه السلام - عبوديته لله . فليس هو ابنه كما تدعي فرقة . وليس هو إلها كما تدعي فرقة . وليس هو ثالث ثلاثة هم إله واحد وهم ثلاثة كما تدعي فرقة . . ويعلن أن الله جعله نبيا ، لا ولدا ولا شريكا .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } .
يقول تعالى ذكره : فلما قال قوم مريم لها كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا وظنوا أن ذلك منها استهزاء بهم ، قال عيسى لها متكلما عن أمه : إنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتاب . وكانوا حين أشارت لهم إلى عيسى فيما ذُكر عنهم غضبوا ، كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أشارت لهم إلى عيسى غضبوا ، وقالوا : لسخريتها بنا حين تأمرنا أن نكلم هذا الصبيّ أشدّ علينا من زناها قالُوا كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه قالُوا كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا فأجابهم عيسى عنها فقال لهم إنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قالُوا كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا قال لهم : إنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا فقرأ حتى بلغ ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبّارا شَقِيّا فقالوا : إن هذا لأمر عظيم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا قال إنّي عَبْدُ اللّهِ لم يتكلم عيسى إلا عند ذلك حين قالُوا كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا .
وقوله : آتانِيَ الكِتابَ يقول القائل : أو آتاه الكتاب والوحي قبل أن يخلق في بطن أمه فإن معنى ذلك بخلاف ما يظنّ ، وإنما معناه : وقضى يوم قضى أمور خلقه إليّ أن يؤتيني الكتاب ، كما :
حدثني بشر بن آدم ، قال : حدثنا الضحاك ، يعني ابن مخلد ، عن سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة قالَ آتانِيَ الكِتابَ قال : قضى أن يؤتيني الكتاب فيما مضى .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله إنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتابَ قال : القضاء .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قول الله إنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتابَ قال : قضى أن يؤتيني الكتاب .
وقوله : وَجَعَلَنِي نَبِيّا وقد بيّنت معنى النبيّ واختلاف المختلفين فيه ، والصحيح من القول فيه عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وكان مجاهد يقول في معنى النبيّ وحده ما :
حدثنا به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : النبيّ وحده الذي يكلم وينزل عليه الوحي ولا يرسل .
{ إني عبد الله } الآية وروي أنه قام متكئاً على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمنى ، و { الكتاب } هو الإنجيل ويحتمل أن يريد التوراة والإنجيل ، ويكون الإيتاء فيهما مختلفاً ، و { آتاني } معناه قضي بذلك وأنفذه في سابق حكمه وهذا نحو قوله تعالى { أتى أمر الله }{[7952]} [ النحل : 1 ] ، وغير هذا . وأمال الكسائي «آتاني وأوصاني » والباقون لا يميلون ، قال أبو علي الامالة في { آتاني } أحسن لأن في { أوصاني } مستعلياً .
كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها بعد وضعها ، وهو طيّ يتعجب منه . ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة ، فأطلع الله تعالى عليه نبيئه صلى الله عليه وسلم .
والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان عيسى لأن الله علم بأن قوماً سيقولون : إنه ابن الله .
والتعبير عن إيتاء الكتاب بفعل المضي مراد به أن الله قدّر إيتاءه إياه ، أي قدّر أن يوتيني الكتاب .
والكتاب : الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير . فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن . والمراد بالكتاب الإنجيل وهو ما كتب من الوحي الذي خاطب الله به عيسى . ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فيكون الإيتاء إيتاءَ علم ما في التوراة كقوله تعالى : { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } [ مريم : 12 ] فيكون قوله { وجعلني نبيئاً } ارتقاء في المراتب التي آتاه الله إياها .
والقول في التعبير عنه بالماضي كالقول في قوله و { ءاتانِي الكِتَابَ } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ف {قال} الصبي، وهو يومئذ ولد، {إني عبد الله}، وكذبت النصارى فيما يقولون، فأول ما تكلم به الصبي أنه أقر لله بالعبودية، {ءاتاني الكتاب}، يعني: أعطاني الإنجيل فعلمنيه، {وجعلني نبيا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما قال قوم مريم لها "كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا "وظنوا أن ذلك منها استهزاء بهم، قال عيسى لها متكلما عن أمه: "إنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتاب"...
وقوله: "آتانِيَ الكِتابَ" يقول القائل: أو آتاه الكتاب والوحي قبل أن يخلق في بطن أمه فإن معنى ذلك بخلاف ما يظنّ، وإنما معناه: وقضى يوم قضى أمور خلقه إليّ أن يؤتيني الكتاب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما قالوا ذلك أنطق اللَّهُ عيسى حتى قال: {إني عَبْدُ اللَّهِ}، فظهرت براءةُ ساحتها بكلام عيسى قبل أن يتكلم مثلُه. وجرى على لسانه حتى قال: {إني عَبْدُ اللَّهِ}؛ ليُقَال للنصارى إِنْ صَدَقَ عيسى أنه عبدُ الله بطل قولُكم إِنه ثالث ثلاثة، وإِن كذب فالذي يكذب لا يكون ابناً لله، وإنما يكون عبداً لله، وإذا لم يكن عَبْدَ هواه، ولا في أسرِ شيءِ سواه فَمَنْ تحرر مِنْ غيره فهو في الحقيقة عَبْدُه. {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} بفضله.
الصفة الأولى: قوله: {إني عبد الله} وفيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن الكلام منه في ذلك الوقت كان سببا للوهم الذي ذهبت إليه النصارى، فلا جرم أول ما تكلم إنما تكلم بما يرفع ذلك الوهم فقال: {إني عبد الله} وكان ذلك الكلام وإن كان موهما من حيث إنه صدر عنه في تلك الحالة، ولكن ذلك الوهم يزول ولا يبقى من حيث إنه تنصيص على العبودية.
الفائدة الثانية: أنه لما أقر بالعبودية فإن كان صادقا في مقاله فقد حصل الغرض وإن كان كاذبا لم تكن القوة قوة إلهية بل قوة شيطانية فعلى التقديرين يبطل كونه إلها.
الفائدة الثالثة: أن الذي اشتدت الحاجة إليه في ذلك الوقت إنما هو نفي تهمة الزنا عن مريم عليها السلام ثم إن عيسى عليه السلام لم ينص على ذلك وإنما نص على إثبات عبودية نفسه كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن الأم، فلهذا أول ما تكلم إنما تكلم بها. الفائدة الرابعة: وهي أن التكلم بإزالة هذه التهمة عن الله تعالى يفيد إزالة التهمة عن الأم لأن الله سبحانه لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة. وأما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى فكان الاشتغال بذلك أولى فهذا مجموع ما في هذا اللفظ من الفوائد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إني عبد الله} أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره، إشارة إلى الاعتقاد الصحيح فيه، وأنه لا يستعبده شيطان ولا هوى {ءاتاني الكتاب} أي التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف على صغر سني {وجعلني} أي في علمه {نبياً} ينبئ بما يريد في الوقت الذي يريد، وقيل في ذلك: فأنبئكم به.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن ها هي ذي الخارقة العجيبة تقع مرة أخرى: قال: إني عبد الله، آتاني الكتاب، وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا. وهكذا يعلن عيسى -عليه السلام- عبوديته لله. فليس هو ابنه كما تدعي فرقة. وليس هو إلها كما تدعي فرقة. وليس هو ثالث ثلاثة هم إله واحد وهم ثلاثة كما تدعي فرقة.. ويعلن أن الله جعله نبيا، لا ولدا ولا شريكا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها بعد وضعها، وهو طيّ يتعجب منه. ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة، فأطلع الله تعالى عليه نبيئه صلى الله عليه وسلم. والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان عيسى لأن الله علم بأن قوماً سيقولون: إنه ابن الله. والتعبير عن إيتاء الكتاب بفعل المضي مراد به أن الله قدّر إيتاءه إياه، أي قدّر أن يؤتيني الكتاب. والكتاب: الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير. فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن...
والمراد بالكتاب الإنجيل وهو ما كتب من الوحي الذي خاطب الله به عيسى. ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فيكون الإيتاء إيتاءَ علم ما في التوراة كقوله تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم: 12] فيكون قوله {وجعلني نبيئاً} ارتقاء في المراتب التي آتاه الله إياها. والقول في التعبير عنه بالماضي كالقول في قوله و {ءاتانِي الكِتَابَ}.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولكن استبان لهم أن هذا الصبي أحكم وأعلم منهم، وأنطق بالحق ممن استغربوا. كان كلامه الحكيم الفيصل بين الحق والباطل... تكلم في المهد ليتحقق وفاء أمه بنذرها، ولتحقق براءة أمه من اتهامها بالزنى، وهي البريئة العذراء البتول التي اصطفاها الله على نساء العالمين، ثم عاد إلى ما يكون عليه الأطفال حتى بلغ المبلغ الذي ينطق فيه من يكون في سن النطق...
الأزمان عند الله واحدة، لا فرق فيها بين ماض وقابل، فلكها في علم الله تعالى واحد، ولكن كون بعضها ماضيا وبعضها قابلا إنما هو بالنسبة لعلمنا نحن وحدنا، فالله في علمه المكنون ألهم عيسى عليه السلام في المهد أن ينطق بهذه الأمور على أنها واقعة وهي ستكون لا محالة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا أخذ يتحدث إليهم عن صفته المستقبلية، في ما يريد الله له أن يمارسه من دور، أو يقوم به من مسؤولية، فهو، مهما أحاط خلقه وقدراته من أسرار، لا يبتعد عن كونه عبداً لله، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا به، ولا يتحرك في أي وضع غير عادي إلا بإذنه، فلا مجال للغلو والارتفاع به فوق مستوى البشرية، عند النظر إليه في المستقبل. وهو من موقع عبوديته لله، يتحرك في خط النبوة التي أكرمه الله بها، ويحمل الإنجيل وهو الكتاب الذي يتضمن رسالة الله ووحيه، تلك هي صفة عيسى عليه السلام الواقعية، التي يعيش فيها بشرية الإنسان، ورسالية النبي، وحركة الوحي في الدعوة.