قال السديُّ : فلما سمعَ عيسى - صلوات الله عليه- كلامهم ، وكان يرضعُ ، ترك الرَّضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، واتَّكأ على يساره ، وأشار بسبَّابة يمينه ، فقال : { إِنِّي عَبْدُ الله }{[21583]} .
وقيل : كلَّمهم بذلك ، ثم لم يتكلَّم ؛ حتى بلغ مبلغاً يتكلَّم فيه الصبيانُ ، وقال وهبّ : أتاها زكريَّا- عليه الصلاة والسلام- عند مناظرتها اليهُود ، فقال لعيسى : انْطِقْ بحُجَّتِكَ ، إن كنت أمرتَ بها ، فقال عيسى عند ذلك وهو ابنُ أربعين يوماً- وقال مقاتلٌ : بل هو يوم ولد- : إنَّي عبد الله ، أقرَّ على نفسه بالعُبوديَّة لله- عزَّ وجلَّ- أول ما تكلَّم لئلا يتَّخذ إلهاً ، وفيه فوائد :
الأولى : أن ذلك الكلام في ذلك الوقت ، كان سبباً لإزالةِ الوَهْم الذي ذهب إليه النَّصارى ؛ فلا جرم : أوَّل ما تكلَّم ، قال : { إِنِّي عَبْدُ الله } .
الثانية : أن الحاجة في ذلك الوقت ، إنَّما هو نفي تُهْمة الزِّنا عن مريم ، ثم إنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لم ينصَّ على ذلك ، وإنَّما نصَّ على إثبات عبوديَّة نفسه ، كأنَّه جعل إزالة التُّهْمَة عن الله تعالى أولى من إزالة التُّهمة عن الأمِّ ؛ فلهذا : أوَّلُ ما تكلَّم إنما تكلَّم بقوله : { إِنِّي عَبْدُ الله } .
الثالثة : أنَّ التكلُّم بإزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ]{[21584]} يفيد إزالةَ التُّهمة عن الأمِّ ؛ لأنَّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية ، والمرتبة العظيمة ، أمَّا التكلُّم بإزالةِ التُّهْمَة عن الأمِّ ، فلا يفيدُ إزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ]{[21585]} ، فكان الاشتغالُ بذلك هاهنا أولى .
في إبطال قول النصارى وجوه{[21586]} :
الأول : أنَّهُم وافقونا على أنَّ ذاته -سبحانه وتعالى- لم تحلَّ في ناسُوت عيسى ، بل قالوا : الكلمةُ حلَّت فيه ، والمرادُ من الكلمة العلمُ ، فنقول : العلمُ ، لما حصل لعيسى ، ففي تلك الحالةِ : إمَّا أن يقال : إنَّه بقيَ في ذاتِ الله تعالى ، أو ما بقي .
فإن كان الأوَّل ، لزِمَ حُصُول الصِّفَة الواحدة في مَحَلَّيْنِ ، وذلك غير معقول ، ولأنَّه لو جاز أن يقال : العلمُ الحاصلُ في ذات عيسى هو العلمُ الحاصلُ في ذاتِ الله بعينه ، فلم لا يجوزُ في حقِّ كلِّ واحدٍ ذلك حتى يكون العلمُ الحاصلُ لكُلِّ واحدٍ هو العلمُ الحاصلُ لذات الله تعالى ؟ وإن كان الثاني ، لزم أن يقال : إنَّ الله تعالى لا يبقى عالماً بعد حلول علمه في عيسى ، وذلك ممَّا لا يقوله عاقلٌ .
قال ابنُ الخطيب{[21587]} :
وثانيها : مناظرة جرت بيني وبين بعض النَّصارى ، فقلتُ له : هل تُسلِّم أنَّ عدم الدَّليل لا يدُلُّ على عدم المدلول ، أمْ لا ؟ فإن أنكرت ، لزمكَ لا يكون الله قديماً ؛ لأنَّ دليل وجُودِهِ هو العالمُ ، فإذا لَزِمَ من عدمِ الدَّليل عدمُ المدلول ، لزِمَ من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل ، وإن سلَّمت أنَّه لا يلزمُ من عدم الدَّليل عدمُ المدلول ، فنقولُ : إذا جوَّزْتَ اتحادَ كلمة الله بعيسى أو حُلولها فيه ، فكيف عرفت أنََّ كلمة الله تعالى ما حلَّتْ في زيْدٍ وعمرٍ ؟ بل كيف عرفتَ أنَّها ما حلّت في هذه الهرَّة ، وفي هذا الكلب ؟ فقال : إنَّ هذا السُّؤال لا يليقُ بك ؛ لأنَّا إنَّما أثبتنا ذلك الاتحاد ، أو الحلول ، بناءً على ما ظهر على يد عيسى من إحياء الموتى ، وإبراءِ الأكمه ، والأبرصِ ، فإذا لم نجدْ شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره ، فكيف نثبت الاتحادَ ، أو الحُلُول ؟ فقلتُ له : إنِّي عرفتُ بهذا الكلام أنَّكَ ما عرفتَ أوَّل الكلامِ ؛ لأنَّك سلَّمْتَ لي أنَّ عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلُول ، وإذا كان هذا الحُلولُ غير ممتنعٍ في الجملة ، فأكثر ما في هذا الباب أنَّه وُجِدَ ما يدلُّ على حصُوله في حقّ عيسى ، ولم يوجد ذلك الدَّليلُ في حقِّ زيدٍ وعمرو ، ولكن عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلول لا يدلُّ على عدم المدلُول ؛ فلا يلزمُ من عدم ظهورِ هذه الخوارق على يد زيدٍ وعمرٍو ، وعلى السِّنَّوْرِ والكلبِ عدمُ ذلك الحُلُول ، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد ، والحلول ، لزمك تجويزُ حُصُول ذلك الاتحادِ ، والحُلُول في حقِّ كلِّ أحد ، بل في حق كل حيوان ونباتٍ ، ولكنَّ المذهب الذي يسُوقُ [ قائلهُ ]{[21588]} إلى مثل هذا [ القول ]{[21589]} الركيك ، يكُون باطلاً قطعاً ، ثم قلتُ [ له ] وكيف دلَّ إحياءُ الموتى ، وإبراءُ الأكمهِ ، والأبرصِ على ما قلت ؟ أليس انقلابُ العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميِّت حيًّا ، فإذا ظهر على يد مُوسى ، ولم يدلُّ على إلهيته ، فبأن لا يدلَّ هذا على إلهيَّة عيسى أولى .
وثالثها : أن دلالة أحوال عيسى على العبوديَّة أقوى من دلالتها على الربوبيَّة ؛ لأنَّه كان مجتهداً في العبادة ، والعبادةُ لا تليقُ إلا بالعبد ، وأنَّه كان في نهاية البُعْد عن الدُّنْيَا ، والاحترازِ عن أهلها حتى قالت النصارى : إنَّ اليهُود قتلُوه ، ومن كان في الضعف هكذا ، فكيف يليقُ به الرُّبُوبيِّة ؟ .
ورابعها : أن المسيح : إمَّا أن يكون قديماً ، أو محدثاً ، والقولُ بقدمه باطلٌ ؛ لأنَّا نعلمُ بالضَّرورةِ أنَّه وُلدَ ، وكان طفلاً ، ثم صار شابًّا ، وكان يأكُل ويَشْرب ، ويعرضُ له ما يعْرِضُ لسائر البشر ، وإنْ كان مُحْدِثاً ، كان مخلوقاً ، ولا معنى للعبوديَّة إلاَّ ذلك .
فإن قيل : المعنيُّ بالإلهيَّة أنَّه حلَّت فيه صفةُ [ الإلهيَّة ، قلنا : ]{[21590]} هب أنَّه كان كذلك ، لكنَّ الحالَّ هو صفة الإلهِ ، والمسيح هو المحل ، والمحلُّ محدثٌ مخلوقٌ ، فالمسيحُ عبدٌ محدثٌ ، فكيف يمكنُ وصفه بالإلهيَّة ؟ .
وخامسها : أنَّ الولد لا بُدَّ وأن يكون من جنس الوالد ، فإن كان لله تعالى ولدٌ ، فلا بُدَّ أن يكُون من جنسه ، فإذاً قد اشتركا في بعض الوجوه ، فإن يتميَّز أحدهما عن الآخر بأمر مَّا ، فكلُّ واحدٍ منهما هو الآخر ، وإن حصل الامتيازُ ، فما به الامتيازُ غيرُ ما به الاشتراكُ ؛ فيلزمُ وقوعُ التَّركيب في ذاتِ الله تعالى ، وكلُّ مركَّب مُمْكِنٌ ، [ فالواجب ]{[21591]} ممكنٌ ؛ هذا خلفٌ ، هذا على الاتِّحاد ، والحلول .
فإن قيل : قالوا : معنى كونه إلهاً أنَّه سبحانهُ خصَّ نفسه أو بدنهُ بالقُدرة على خلق الأجسام ، والتصرُّف في هذا العالمِ ، فهذا أيضاً باطلٌ ؛ لأنَّ النصارى نقلُوا عنه الضَّعف والعَجْز ، وأنَّ اليهود قتلُوه ، فلو كان قادراً على خَلْق الأجسام ، لما قَدَرُوا على قَتْله ، بل كان هو يقْتُلُهم ويَخْلَقُ لنفسه عَسْكَراً يذُبُّون عنه .
فإن قيل : قالُوا : معنى كونه إلهاً أنَّه اتَّخذه ابناً لنفسه ؛ على سبيل التشريف ، وهو قد قال به قومٌ من النصارى ، يقال لهم الآريوسية ، وليس فيه كثير خطأ إلاَّ في اللفظ .
قوله تعالى : { آتَانِيَ الكتاب } قيل : معناه : سيُؤتيني الكتاب ، ويجعلني نبيًّا .
روى عكرمةُ عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- " أنَّ هذا إخبارٌ عمَّا كتبَ له في اللَِّوْح المحفُوظ ؛ كما قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : متى كُنْتَ نبيًّا ؟ قال : " كُنْتُ نبيًّا ، وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجسدِ " {[21592]} وعن الحسن -رضي الله عنه- أنَّه ألهمَ التوراة ، وهو في بطن أمِّه .
وقال الأكثرون : إنه أوتيَ الإنجيل ، وهو صغيرٌ طفلٌ ، وكان يعقلُ عقل الرِّجال .
فمن قال : الكتابُ : هو التَّوراة ، قال : لأنَّ الألف واللاَّم للعهد ، ولا معهود حينئذٍ إلاَّ التوراة ، ومن قال : الإنجيلُ ، قال " الألفُ واللاَّم للاستغراق ، وظاهرُ كلام عيسى -صلوات الله عليه- أنَّ الله تعالى آتاه الكتاب ، وجعله نبيًّا ، وأمره بالصَّلاة والزَّكاة ، وأن يدعو إلى الله تعالى ، وإلى دينه ، وشريعته من قبل أن يكلِّمهم ، وأنه تكلَّم مع أمَّه وأخبرها بحاله ، وأخبرها بأنَّه يكلِّمهم بما يدلُّ على براءتها ، فلهذا أشارتْ إليه بالكلامِ .
قال بعضهم : أخبر أنَّه نبيٌّ ، ولكَّنه ما كان رسولاً ؛ لأنَّه في ذلك الوقت ما جاء بالشَّريعة ، ومعنى كونه نبيَّا : رفيعُ القدر عالي الدرجة ؛ وهذا ضعيف لأنَّ النَّبيَّ في عرف الشَّرع هو الذي خصَّه الله بالنبوَّة وبالرِّسالة ، خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشَّرع ، وهو قوله : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.