اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا} (30)

قال السديُّ : فلما سمعَ عيسى - صلوات الله عليه- كلامهم ، وكان يرضعُ ، ترك الرَّضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، واتَّكأ على يساره ، وأشار بسبَّابة يمينه ، فقال : { إِنِّي عَبْدُ الله }{[21583]} .

وقيل : كلَّمهم بذلك ، ثم لم يتكلَّم ؛ حتى بلغ مبلغاً يتكلَّم فيه الصبيانُ ، وقال وهبّ : أتاها زكريَّا- عليه الصلاة والسلام- عند مناظرتها اليهُود ، فقال لعيسى : انْطِقْ بحُجَّتِكَ ، إن كنت أمرتَ بها ، فقال عيسى عند ذلك وهو ابنُ أربعين يوماً- وقال مقاتلٌ : بل هو يوم ولد- : إنَّي عبد الله ، أقرَّ على نفسه بالعُبوديَّة لله- عزَّ وجلَّ- أول ما تكلَّم لئلا يتَّخذ إلهاً ، وفيه فوائد :

الأولى : أن ذلك الكلام في ذلك الوقت ، كان سبباً لإزالةِ الوَهْم الذي ذهب إليه النَّصارى ؛ فلا جرم : أوَّل ما تكلَّم ، قال : { إِنِّي عَبْدُ الله } .

الثانية : أن الحاجة في ذلك الوقت ، إنَّما هو نفي تُهْمة الزِّنا عن مريم ، ثم إنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لم ينصَّ على ذلك ، وإنَّما نصَّ على إثبات عبوديَّة نفسه ، كأنَّه جعل إزالة التُّهْمَة عن الله تعالى أولى من إزالة التُّهمة عن الأمِّ ؛ فلهذا : أوَّلُ ما تكلَّم إنما تكلَّم بقوله : { إِنِّي عَبْدُ الله } .

الثالثة : أنَّ التكلُّم بإزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ]{[21584]} يفيد إزالةَ التُّهمة عن الأمِّ ؛ لأنَّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية ، والمرتبة العظيمة ، أمَّا التكلُّم بإزالةِ التُّهْمَة عن الأمِّ ، فلا يفيدُ إزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ]{[21585]} ، فكان الاشتغالُ بذلك هاهنا أولى .

فصل في إبطال قول النصارى

في إبطال قول النصارى وجوه{[21586]} :

الأول : أنَّهُم وافقونا على أنَّ ذاته -سبحانه وتعالى- لم تحلَّ في ناسُوت عيسى ، بل قالوا : الكلمةُ حلَّت فيه ، والمرادُ من الكلمة العلمُ ، فنقول : العلمُ ، لما حصل لعيسى ، ففي تلك الحالةِ : إمَّا أن يقال : إنَّه بقيَ في ذاتِ الله تعالى ، أو ما بقي .

فإن كان الأوَّل ، لزِمَ حُصُول الصِّفَة الواحدة في مَحَلَّيْنِ ، وذلك غير معقول ، ولأنَّه لو جاز أن يقال : العلمُ الحاصلُ في ذات عيسى هو العلمُ الحاصلُ في ذاتِ الله بعينه ، فلم لا يجوزُ في حقِّ كلِّ واحدٍ ذلك حتى يكون العلمُ الحاصلُ لكُلِّ واحدٍ هو العلمُ الحاصلُ لذات الله تعالى ؟ وإن كان الثاني ، لزم أن يقال : إنَّ الله تعالى لا يبقى عالماً بعد حلول علمه في عيسى ، وذلك ممَّا لا يقوله عاقلٌ .

قال ابنُ الخطيب{[21587]} :

وثانيها : مناظرة جرت بيني وبين بعض النَّصارى ، فقلتُ له : هل تُسلِّم أنَّ عدم الدَّليل لا يدُلُّ على عدم المدلول ، أمْ لا ؟ فإن أنكرت ، لزمكَ لا يكون الله قديماً ؛ لأنَّ دليل وجُودِهِ هو العالمُ ، فإذا لَزِمَ من عدمِ الدَّليل عدمُ المدلول ، لزِمَ من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل ، وإن سلَّمت أنَّه لا يلزمُ من عدم الدَّليل عدمُ المدلول ، فنقولُ : إذا جوَّزْتَ اتحادَ كلمة الله بعيسى أو حُلولها فيه ، فكيف عرفت أنََّ كلمة الله تعالى ما حلَّتْ في زيْدٍ وعمرٍ ؟ بل كيف عرفتَ أنَّها ما حلّت في هذه الهرَّة ، وفي هذا الكلب ؟ فقال : إنَّ هذا السُّؤال لا يليقُ بك ؛ لأنَّا إنَّما أثبتنا ذلك الاتحاد ، أو الحلول ، بناءً على ما ظهر على يد عيسى من إحياء الموتى ، وإبراءِ الأكمه ، والأبرصِ ، فإذا لم نجدْ شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره ، فكيف نثبت الاتحادَ ، أو الحُلُول ؟ فقلتُ له : إنِّي عرفتُ بهذا الكلام أنَّكَ ما عرفتَ أوَّل الكلامِ ؛ لأنَّك سلَّمْتَ لي أنَّ عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلُول ، وإذا كان هذا الحُلولُ غير ممتنعٍ في الجملة ، فأكثر ما في هذا الباب أنَّه وُجِدَ ما يدلُّ على حصُوله في حقّ عيسى ، ولم يوجد ذلك الدَّليلُ في حقِّ زيدٍ وعمرو ، ولكن عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلول لا يدلُّ على عدم المدلُول ؛ فلا يلزمُ من عدم ظهورِ هذه الخوارق على يد زيدٍ وعمرٍو ، وعلى السِّنَّوْرِ والكلبِ عدمُ ذلك الحُلُول ، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد ، والحلول ، لزمك تجويزُ حُصُول ذلك الاتحادِ ، والحُلُول في حقِّ كلِّ أحد ، بل في حق كل حيوان ونباتٍ ، ولكنَّ المذهب الذي يسُوقُ [ قائلهُ ]{[21588]} إلى مثل هذا [ القول ]{[21589]} الركيك ، يكُون باطلاً قطعاً ، ثم قلتُ [ له ] وكيف دلَّ إحياءُ الموتى ، وإبراءُ الأكمهِ ، والأبرصِ على ما قلت ؟ أليس انقلابُ العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميِّت حيًّا ، فإذا ظهر على يد مُوسى ، ولم يدلُّ على إلهيته ، فبأن لا يدلَّ هذا على إلهيَّة عيسى أولى .

وثالثها : أن دلالة أحوال عيسى على العبوديَّة أقوى من دلالتها على الربوبيَّة ؛ لأنَّه كان مجتهداً في العبادة ، والعبادةُ لا تليقُ إلا بالعبد ، وأنَّه كان في نهاية البُعْد عن الدُّنْيَا ، والاحترازِ عن أهلها حتى قالت النصارى : إنَّ اليهُود قتلُوه ، ومن كان في الضعف هكذا ، فكيف يليقُ به الرُّبُوبيِّة ؟ .

ورابعها : أن المسيح : إمَّا أن يكون قديماً ، أو محدثاً ، والقولُ بقدمه باطلٌ ؛ لأنَّا نعلمُ بالضَّرورةِ أنَّه وُلدَ ، وكان طفلاً ، ثم صار شابًّا ، وكان يأكُل ويَشْرب ، ويعرضُ له ما يعْرِضُ لسائر البشر ، وإنْ كان مُحْدِثاً ، كان مخلوقاً ، ولا معنى للعبوديَّة إلاَّ ذلك .

فإن قيل : المعنيُّ بالإلهيَّة أنَّه حلَّت فيه صفةُ [ الإلهيَّة ، قلنا : ]{[21590]} هب أنَّه كان كذلك ، لكنَّ الحالَّ هو صفة الإلهِ ، والمسيح هو المحل ، والمحلُّ محدثٌ مخلوقٌ ، فالمسيحُ عبدٌ محدثٌ ، فكيف يمكنُ وصفه بالإلهيَّة ؟ .

وخامسها : أنَّ الولد لا بُدَّ وأن يكون من جنس الوالد ، فإن كان لله تعالى ولدٌ ، فلا بُدَّ أن يكُون من جنسه ، فإذاً قد اشتركا في بعض الوجوه ، فإن يتميَّز أحدهما عن الآخر بأمر مَّا ، فكلُّ واحدٍ منهما هو الآخر ، وإن حصل الامتيازُ ، فما به الامتيازُ غيرُ ما به الاشتراكُ ؛ فيلزمُ وقوعُ التَّركيب في ذاتِ الله تعالى ، وكلُّ مركَّب مُمْكِنٌ ، [ فالواجب ]{[21591]} ممكنٌ ؛ هذا خلفٌ ، هذا على الاتِّحاد ، والحلول .

فإن قيل : قالوا : معنى كونه إلهاً أنَّه سبحانهُ خصَّ نفسه أو بدنهُ بالقُدرة على خلق الأجسام ، والتصرُّف في هذا العالمِ ، فهذا أيضاً باطلٌ ؛ لأنَّ النصارى نقلُوا عنه الضَّعف والعَجْز ، وأنَّ اليهود قتلُوه ، فلو كان قادراً على خَلْق الأجسام ، لما قَدَرُوا على قَتْله ، بل كان هو يقْتُلُهم ويَخْلَقُ لنفسه عَسْكَراً يذُبُّون عنه .

فإن قيل : قالُوا : معنى كونه إلهاً أنَّه اتَّخذه ابناً لنفسه ؛ على سبيل التشريف ، وهو قد قال به قومٌ من النصارى ، يقال لهم الآريوسية ، وليس فيه كثير خطأ إلاَّ في اللفظ .

قوله تعالى : { آتَانِيَ الكتاب } قيل : معناه : سيُؤتيني الكتاب ، ويجعلني نبيًّا .

روى عكرمةُ عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- " أنَّ هذا إخبارٌ عمَّا كتبَ له في اللَِّوْح المحفُوظ ؛ كما قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : متى كُنْتَ نبيًّا ؟ قال : " كُنْتُ نبيًّا ، وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجسدِ " {[21592]} وعن الحسن -رضي الله عنه- أنَّه ألهمَ التوراة ، وهو في بطن أمِّه .

وقال الأكثرون : إنه أوتيَ الإنجيل ، وهو صغيرٌ طفلٌ ، وكان يعقلُ عقل الرِّجال .

فمن قال : الكتابُ : هو التَّوراة ، قال : لأنَّ الألف واللاَّم للعهد ، ولا معهود حينئذٍ إلاَّ التوراة ، ومن قال : الإنجيلُ ، قال " الألفُ واللاَّم للاستغراق ، وظاهرُ كلام عيسى -صلوات الله عليه- أنَّ الله تعالى آتاه الكتاب ، وجعله نبيًّا ، وأمره بالصَّلاة والزَّكاة ، وأن يدعو إلى الله تعالى ، وإلى دينه ، وشريعته من قبل أن يكلِّمهم ، وأنه تكلَّم مع أمَّه وأخبرها بحاله ، وأخبرها بأنَّه يكلِّمهم بما يدلُّ على براءتها ، فلهذا أشارتْ إليه بالكلامِ .

قال بعضهم : أخبر أنَّه نبيٌّ ، ولكَّنه ما كان رسولاً ؛ لأنَّه في ذلك الوقت ما جاء بالشَّريعة ، ومعنى كونه نبيَّا : رفيعُ القدر عالي الدرجة ؛ وهذا ضعيف لأنَّ النَّبيَّ في عرف الشَّرع هو الذي خصَّه الله بالنبوَّة وبالرِّسالة ، خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشَّرع ، وهو قوله : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة }


[21583]:ينظر: المصدر السابق.
[21584]:في ب: أبيه.
[21585]:في ب: أبيه.
[21586]:ينظر: الفخر الرازي 21/181.
[21587]:ينظر: الفخر الرازي 21/181.
[21588]:في ب: تأويله.
[21589]:في ب: التأويل.
[21590]:في ب: الإله، فالجواب.
[21591]:في ب: فالجواب.
[21592]:تقدم تخريجه.