( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ) .
هكذا في اختصار حاسم . أخذ شديد ونبذ في اليم . نبذ كما تحذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر . اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع ، فكان مأمنا وملجأ . وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة . فالأمن إنما يكون في جناب الله ، والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب . ( فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) . .
فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين . وفيها عبرة للمعتبرين ، ونذير للمكذبين . وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر ، وفي أقل من نصف سطر !
وقوله : فَأخَذْناهُ وَجُنُودَهُ يقول تعالى ذكره : فجمعنا فرعون وجنوده من القبط فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمّ يقول : فألقيناهم جميعهم في البحر ، فغرقناهم فيه ، كما قال أبو الأسود الدّؤَلِيّ :
نَظَرْتُ إلى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتُه *** كَنَبْذِكَ نَعْلاً أخْلَقَتْ مِنْ نِعالِكا
وذُكر أن ذلك بحر من وراء مصر ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة : فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمّ قال : كان اليم بحرا يقال له إساف ، من وراء مصر ، غرّقهم الله فيه .
وقوله : فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبُةُ الظّالِمِينَ يقول تعالى ذكره : فانظر يا محمد بعين قلبك : كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، فكفروا بربهم وردّوا على رسوله نصيحته ، ألم نهلكهم فنُوَرّث ديارهم وأموالهم أولياءنا ، ونخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون وكنوز ، ومَقام كريم ، بعد أن كانوا مستضعفين ، تقتل أبناؤهم ، وتُستحيا نساؤهم ، فإنا كذلك بك وبمن آمن بك وصدّقك فاعلون مخوّلوك وإياهم ديار مَنْ كذّبك ، وردّ عليك ما أتيتهم به من الحقّ وأموالهم ، ومهلكوهم قتلاً بالسيف ، سنة الله في الذين خَلَوا من قبل .
{ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } كما مر بيانه ، وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ واستحقار للمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم ، ونظيره قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } فانظر يا محمد . { كيف كان عاقبة الظالمين } وحذر قومك عن مثلها .
{ نبذناهم } معناه طرحناهم ، ومنه نبذ النواة ومنه قول الشاعر :
نظرت إلى عنوانه فنبذته . . . كنبذك نعلاً من نعالك باليا{[9149]}
وقوم فرعون وإن كانوا ساروا إلى البحر ودخلوه باختيارهم فإن ما ضمهم من القدر السابق السائق [ وإغراقهم في البحر ]{[9150]} هو نبذ الله تعالى إياهم فيه ، و { اليم } بحر القلزم في قول أكثر الناس ، وقالت فرقة : كان غرقهم في نيل مصر والأول أشهر .
أي ظنوا أنهم لا يرجعون إلينا فعجلنا بهلاكهم فإن ذلك من الرجوع إلى الله لأنه رجوع إلى حكمه وعقابه ، ويعقبه رجوع أرواحهم إلى عقابه ، فلهذا فرع على ظنهم ذلك الإعلام بأنه أخذ وجنوده . وجعل هذا التفريع كالاعتراض بين حكاية أحوالهم .
وجعل في « الكشاف » هذا من الكلام الفخم لدلالته على عظمة شأن الله إذ كان قوله { فنبذناهم في اليم } يتضمن استعارة مكنية : شبه هو وجنوده بحصيات أخذهن في كفه فطرحهن في البحر . وإذا حمل الأخذ على حقيقته كان فيه استعارة مكنية أيضاً لأنه يستتبع تشبيهاً بقبضة تؤخذ باليد كقوله تعالى { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } [ الحاقة : 14 ] وقوله { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } [ الزمر : 67 ] . ويجوز أن يجعل جميع ذلك استعارة تمثيلية كما لا يخفى .
وقوله { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } اعتبار بسوء عاقبتهم لأجل ظلمهم أنفسهم بالكفر وظلمهم الرسول بالاستكبار عن سماع دعوته . وهذا موضع العبرة من سوق هذه القصة ليعتبر بها المشركون فيقيسوا حال دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بحال دعوة موسى عليه السلام ويقيسوا حالهم بحال فرعون وقومه ، فيوقنوا بأن ما أصاب فرعون وقومه من عقاب سيصيبهم لا محالة . وهذا من جملة محل العبرة بهذا الجزء من القصة ابتداء من قوله تعالى { فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات } [ القصص : 36 ] ليعتبر الناس بأن شأن أهل الضلالة واحد فإنهم يتلقون دعاة الخير بالإعراض والاستكبار واختلاق المعاذير فكما قال فرعون وقومه { ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } [ القصص : 36 ] قالت قريش { بل افتراه بل هو شاعر } [ الأنبياء : 5 ] ، وقالوا { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } [ ص : 7 ] أي التي أدركناها .
وكما طمع فرعون أن يبلغ إلى الله استكباراً منه في الأرض سأل المشركون { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً } [ الفرقان : 21 ] وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله كما ظن أولئك فيوشك أن يصيبهم من الاستئصال ما أصاب أولئك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم} يعني: فقذفناهم في نهر النيل الذي بمصر {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} يعني: المشركين، أهل مصر، كان عاقبتهم الغرق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَأخَذْناهُ وَجُنُودَهُ" يقول تعالى ذكره: فجمعنا فرعون وجنوده من القبط "فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمّ "يقول: فألقيناهم جميعهم في البحر، فغرقناهم فيه...
وقوله: "فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبُةُ الظّالِمِينَ" يقول تعالى ذكره: فانظر يا محمد بعين قلبك: كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، فكفروا بربهم وردّوا على رسوله نصيحته، ألم نهلكهم فنُوَرّث ديارهم وأموالهم أولياءنا، ونخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون وكنوز، ومَقام كريم، بعد أن كانوا مستضعفين، تقتل أبناؤهم، وتُستحيا نساؤهم، فإنا كذلك بك وبمن آمن بك وصدّقك فاعلون مخوّلوك وإياهم ديار مَنْ كذّبك، وردّ عليك ما أتيتهم به من الحقّ وأموالهم، ومهلكوهم قتلاً بالسيف، سنة الله في الذين خَلَوا من قبل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِي اليم} من الكلام الفخم الذي دل به على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه. شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم، وإن كانوا الكثر الكثير والجم الغفير، بحصيات أخذهنّ آخذ في كفه فطرحهنّ في البحر. ونحو ذلك قوله... {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} [الحاقة: 14]، {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]... وأن كل مقدور وإن عظم وجل، فهو مستصغر إلى جنب قدرته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوم فرعون وإن كانوا ساروا إلى البحر ودخلوه باختيارهم فإن ما ضمهم من القدر السابق السائق وإغراقهم في البحر هو نبذ الله تعالى إياهم فيه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال: {فأخذناه} أي بعظمتنا أخذ قهر ونقمة {وجنوده} أي كلهم، وذلك علينا هين، وأشار إلى احتقارهم بقوله: {فنبذناهم} أي على صغرهم وعظمتنا {في اليم} فكانوا على كثرتهم وقوتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الذراع من يده في البحر، فغابوا في الحال، وما آبوا ولا أحد منهم إلى أهل ولا مال. ولما سببت هذه الآية من العلوم، ما لا يحيط به الفهوم، قال: {فانظر} أي أيها المتعرف للآيات الناظر فيها نظر الاعتبار؛ وزاد في تعظيم ذلك بالتنبيه على أنه مما يحق له أن يسأل عنه فقال: {كيف كان} أي كوناً هو الكون {عاقبة} أي آخر أمر {الظالمين} وإن زاد ظلمهم، وأعيى أمرهم، ذهبوا في طرقة عين، كأن لم يكونوا، وغابوا عن العيون كأنهم قط لم يبينوا، وسكتوا بعد ذلك الأمر والنهي فصاروا بحيث لم يبينوا، فليحذر هؤلاء الذين ظلموا إن استمروا على ظلمهم أن ينقطعوا ويبينوا، وهذا إشارة عظيمة بأعظم بشارة بأن كل ظالم يكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق، ورابطه حتى يحكم الله وهو خير الحالكمين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم).
هكذا في اختصار حاسم. أخذ شديد ونبذ في اليم. نبذ كما تحذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر. اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع، فكان مأمنا وملجأ. وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة. فالأمن إنما يكون في جناب الله، والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب. (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين)..
فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين. وفيها عبرة للمعتبرين، ونذير للمكذبين. وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر، وفي أقل من نصف سطر!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي ظنوا أنهم لا يرجعون إلينا فعجلنا بهلاكهم فإن ذلك من الرجوع إلى الله لأنه رجوع إلى حكمه وعقابه، ويعقبه رجوع أرواحهم إلى عقابه، فلهذا فرع على ظنهم ذلك الإعلام بأنه أخذ وجنوده. وجعل هذا التفريع كالاعتراض بين حكاية أحوالهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أجل، لقد نبذنا هؤلاء الذين لا قيمة لهم من المجتمع البشري، وطهّرنا الأرض من لوث وجودهم. ثمّ، يختتم الآية بالتوجه إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) قائلا: (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين). هذا النظر ليس بعين «البصر» بل هو بعين «البصيرة»، وهو لا يخص ظلمة الماضي و فراعنة العهد القديم، بل إن ظلمة هذا العصر ليس لهم من مصير سوى هذا المصير المشؤوم!