ولما كان جو السورة جو كرم وكرامة ، فإنه يذكر من صفة الحافظين كونهم . . ( كراما ) . . ليستجيش في القلوب إحساس الخجل والتجمل بحضرة هؤلاء الكرام . فإن الإنسان ليحتشم ويستحيي وهو بمحضر الكرام من الناس أن يسف أو يتبذل في لفظ أو حركة أو تصرف . . فكيف به حين يشعر ويتصور أنه في كل لحظاته وفي كل حالاته في حضرة حفظة من الملائكة( كرام )لا يليق أن يطلعوا منه إلا على كل كريم من الخصال والفعال ? !
إن القرآن ليستجيش في القلب البشري أرفع المشاعر بإقرار هذه الحقيقة فيه بهذا التصور الواقعي الحي القريب إلى الإدراك المألوف . .
و { يعلمون } ما يفعل ابن آدم لمشاهدتهم حاله ، وقد روي حديث ذكره سفيان : يقتضي أن العبد إذا عمل سيئة مما لا ترى ولا تسمع ، مثل الخواطر المستصحبة ونحوها أن الملك يجد ريح تلك الخطرة الخفية بإدراك قد خلقه الله لهم{[11672]} .
وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإِحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهَم .
و{ ما تفعلون } يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكّلين بذلك .
ودخل في { ما تفعلون } : الخواطر القلبية لأنها من عمل القلب أي العقل فإن الإِنسان يُعمل عقله ويعزم ويتردد ، وإن لم يشع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية .
واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل من يقوم بعمل للأمة في الإِسلام من الولاة وغيرهم فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا عليه وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط .
فلا بد فيهم من الكرم وهو زكاء الفطرة ، أي طهارة النفس .
ومن الضبط فيما يجري على يديه بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة بأن يكون ما يصدره مكتوباً ، أو كالمكتوب مضبوطاً لا يستطاع تغييره ، ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل بعد القائم به ، أو في مغيبه أن يعرف ماذا أجري فيه من الأعمال ، وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب ، ومنه نشأت دواوين القضاة ، ودفاتر الشُّهود ، والخِطاب على الرسوم ، وإخراج نسخ الأحْكام والأحباس وعقود النكاح .
ومن إحاطة العلم بما يَتعلق بالأحوال التي تسند إلى المؤتمن عليها بحيث لا يستطيع أحد من المخالطين لوظيفه أن يموّه عليه شيئاً ، أو أن يلبس عليه حقيقة بحيث ينتفي عنه الغلط والخطأ في تمييز الأمور بأقصى ما يمكن ، ويختلف العلم المطلوب باختلاف الأعمال فيقدم في كل ولاية من هو أعلم بما تقتضيه ولايته من الأعمال وما تتوقف عليه من المواهب والدراية ، فليس ما يشترط في القاضي يشترط في أمير الجيش مثلاً ، وبمقدار التفاوت في الخصال التي تقتضيها إحدى الولايات يكون ترجيح من تسند إليه الولاية على غيره حرصاً على حفظ مصالح الأمة ، فيقدم في كل ولاية من هو أقوى كفاءة لإِتقان أعمالها وأشدّ اضطلاعاً بممارستها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعلم هؤلاء الحافظون ما تفعلون من خير أو شرّ، يحصون ذلك عليكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: أنهم {يعلمون ما تفعلون} قبل أن تفعل بما عرّفهم الله تعالى، فيكون في تعريفه إياهم إلزام الحجة عليهم، ويكون الذي يكتبون امتحانا امتحنوا به، إذ قد فوض إلى بعضهم أمر كتابة الأعمال وإلى بعض إرسال الأمطار ونحو ذلك.
الثاني: أنهم {يعلمون ما تفعلون} وقت فعلكم جهة الفعل من خير أو شر، فيكون لفعل الخير آثار بها يعرفون أن الفاعل به قصد به جهة الخير، ويكون لفعل الشر آثار بها يعرفون ذلك أيضا. ثم عذر المسلمين في ترك المراقبة أقل من عذر المكذبين بالدين لأن المسلمين علموا أن عليهم حفاظا، يحفظون عليهم أعمالهم، ويكتبونها عليهم، ثم هم مع ذلك يفعلون، ولا يصحبونهم صحبة الكرام، ويتركون التيقظ والتبصر، والكفرة ينكرون أن يكون عليهم حفاظ، ومن كان هذا حاله فالإغفال عن مثله غير مستبعد...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وقال الحسين بن الفضل: حيث قال يعلمون ولم يقل يكتبون دل على أنه لا يكتب الجميع فيخرج عنه السهو والخطأ وما لا تبعة فيه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أفهم الاستعلاء والتعبير بالوصف إحاطة الاطلاع على ما يبرز من الأعمال، صرح به فقال: {يعلمون} أي على التجدد والاستمرار {ما تفعلون} أي تجددون فعله من خير وشر بالعزم الثابت والداعية الصادقة سواء كان مبنياً على علم أو لا، فكيف يكون مع هذا تكذيب بالجزاء على النقير والقطمير هل يكون إحصاء مثاقيل الذر من أعمالكم عبثاً وهل علمتم بملك يكون له رعية يتركهم هملاً فلا يحاسبهم على ما في أيديهم وما عملوه، ولأجل تكذيبهم بالدين أكد المعنى المستلزم له وهو أمر الحفظة غاية التأكيد...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ودخل في هذا أفعال القلوب، وأفعال الجوارح، فاللائق بكم أن تكرموهم وتجلوهم وتحترموهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإِحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهَم. و {ما تفعلون} يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكّلين بذلك. ودخل في {ما تفعلون}: الخواطر القلبية لأنها من عمل القلب أي العقل فإن الإِنسان يُعمل عقله ويعزم ويتردد، وإن لم يشع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية. واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل من يقوم بعمل للأمة في الإِسلام من الولاة وغيرهم فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا عليه، وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط. فلا بد فيهم من الكرم وهو زكاء الفطرة، أي طهارة النفس. ومن الضبط فيما يجري على يديه بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة بأن يكون ما يصدره مكتوباً، أو كالمكتوب مضبوطاً لا يستطاع تغييره، ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل بعد القائم به، أو في مغيبه أن يعرف ماذا أجري فيه من الأعمال، وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تأكيد آخر على كونهم مطلعين على كلّ الأعمال وبشكل تام، واستناداً إلى اطلاعهم ومعرفتهم يسجلون ما يكتبونه. فالآيات تشير إلى حرية إرادة الإنسان، وتشير إلى كونه مختاراً، وإلاّ فما قيمة تسجيل الأعمال؟ وهل سيبقى للتحذير والإنذار من معنى؟ وتشير أيضاً إلى جدّية ودقّة الحساب والجزاء الإلهي. ويكفي فهم واستيعاب هذه الإشارات البيانية الرّبانية لإنقاذ الإنسان من وقوعه في هاوية المعاصي، وتكفيه الإشارات عظةً ليزكي ويعرف مسؤوليته ويعمل بدروه. بحث كتبة صحائف الأعمال: لم تكن الآيات المبحوثة الدليل الوحيد على وجود المراقبين لأعمال الإنسان، والكاتبين لها بخيرها وشرّها، بل ثمّة آيات كثيرة وروايات عديدة تناولت ذلك...