ثم أخبر - سبحانه - بفساد أعمالهم في الدنيا والآخرة فقال : { أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة } .
والحبوط - كما يقول الراغب - من الحبط ، وهو أن تكثر الدابة الأكل حتى تنتفخ بطنها ، وقد يؤدي إلى موتها .
والمراد بحبوط أعمالهم إزالة آثارها النافعة من ثواب في الآخرة وحياة طيبة في الدنيا ، لأنهم عملوا ما عملوا وهم لا يرجون الله وقاراً .
وجيء باسم الإشارة في صدر الآية ، لتمييز أصحاب تلك الأفعال القبيحة أكمل تمييز ، وللتنبيه على أنهم أحقاء بما سيخبر به عنهم بعد اسم الإشارة .
وكانت الإشارة للبعيد ، للإيذان ببعدهم عن الطريق القويم ، والخلق المستقيم ، وقوله { أولئك } مبتدأ الموصول وصلته خبره .
أى : أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، وسقطت عن حيز الاعتبار ، وخلت عن الثمرة التي كانوا يؤملونها من ورائها ، بسبب إشراكهم بالله واعتدائهم على حرماته .
وقوله { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } نفى لكل ما كانوا يتوهمونه من أسباب النصر ، وقد أكد هذا النفى بمن الزائدة .
أى ليس لهم من أحد ينصرهم من بأس الله وعقابه ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، لأنهم بسبب كفرهم وأفعالهم القبيحة صاروا مستحقين للعقاب ، وليس هناك من يدفعه عنهم .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصفهم بصفات ثلاث : بالكفر وقتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس .
وتوعدهم - أيضاً - بثلاثة أنواع من العقوبات : بالعذاب الأليم ، وحبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة ، وانتفاء من ينصرهم أو يدافع عنهم .
وبذلك نرى الآيتين الكريمتين تسوقان أشد ألوان التهديد والوعيد لهؤلاء المعتدين ، بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة .
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب فيما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديما وحديثا ، التي بلغتهم إياها الرسل ، استكبارًا عليهم وعنادًا لهم ، وتعاظما على الحق واستنكافا عن اتباعه ، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه ، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم ، إلا لكونهم دعوهم إلى الحقّ { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } وهذا هو غاية الكبر ، كما قال النبي{[4919]} صلى الله عليه وسلم : " الْكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْط النَّاسِ " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو الزُّبَيْر الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري ، نزيل مكة ، حدثني أبو حفص عمر بن حفص - يعني ابن ثابت بن زرارة الأنصاري - حدثنا محمد بن حمزة ، حدثني أبو الحسن مولى لبني أسد ، عن مكحول ، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي ، عن أبي عبيدة بن الجراح ، رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ، أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ؟ قال : " رَجلٌ قَتَلَ نَبِيا أوْ مَنْ أمر بِالمْعْرُوفِ ونَهَى عَنِ المُنْكَر " . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ إلى قوله : { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } ]{[4920]} الآية . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبَا عُبَيَدَةَ ، قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلاثَةً وأَرْبَعين نَبيا ، من أوَّلِ النّهَارِ في ساعةٍ وَاحِدَةٍ ، فَقَامَ مِائَة{[4921]} وسَبْعُونَ رَجُلا مِنْ بَني إسْرائيلَ ، فأمَرُوا مَنْ قَتَلَهُم بالْمَعْرُوفِ ونَهَوْهُمْ عَنِ المنكرِ ، فقتلوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهارِ مِنْ ذَلكَ اليَوْمِ ، فَهُم الذِينَ ذَكَرَ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ " .
وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عبيد الوصّابي محمد بن حفص ، عن ابن حُمَيْر ، عن أبي الحسن مولى بني أسد ، عن مكحول ، به{[4922]} .
وعن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار ، وأقاموا سوق بَقْلِهِمْ من آخره . رواه ابن أبي حاتم . ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق ، قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة ، فقال : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : موجع مهين .
وأما قوله : { أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ } فإنه يعني بقوله : { أُولَئِكَ } الذين يكفرون بآيات الله . ومعنى ذلك : أن الذين ذكرناهم ، هم الذين حبطت أعمالهم ، يعني بطلت أعمالهم في الدنيا والاَخرة . فأما قوله : { فِي الدّنْيَا } فلم ينالوا بها محمدة ولا ثناء من الناس ، لأنهم كانوا على ضلال وباطل ، ولم يرفع الله لهم بها ذكرا ، بل لعنهم وهتك أستارهم ، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم ، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمة ، فذلك حبوطها في الدنيا . وأما في الاَخرة ، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه ، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بورا لا ثواب لها ، لأنها كانت كفرا بالله ، فجزاء أهلها الخلود في الجحيم .
وأما قوله : { وَمَا لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ } فإنه يعني : وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه ، فيستنقذهم منه .
جيء باسم الإشارة في قوله : { أولئك الذين حبطت أعمالهم } لأنّهم تميّزوا بهذه الأفعال التي دلت عليها صِلاتُ الموصول أكملَ تمييز ، وللتنبيه على أنّهم أحِقَّاءِ بما سيخبر به عنهم بعدَ اسم الإشارة .
واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره { الذين حَبِطتْ أعمالهم } ، وقيل هو خبر ( إنّ ) وجملة { فبشرهم بعذاب أليم } وهو الجاري على مذهب سيبويه لأنّه يمنع دخول الفاء في الخبر مطلقاً .
وحَبَط الأعمالِ إزالةِ آثارها النافعة من ثوابٍ ونعيم في الآخرة ، وحياةٍ طيّبة في الدنيا ، وإطلاق الحَبَط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحَبَط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل ، يكون سبب موتها ، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به .
وتقدم عند قوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيَمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } في ( سورة البقرة 217 ) .
والمعنى هنا أنّ اليهود لما كانوا متديّنين يَرجون من أعمالهم الصالحة النفعَ بها في الآخرة بالنجَاة من العقاب ، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين ، فلمّا كفروا بآيات الله ، وجحدوا نبوءة محمد ، وصوّبوا الذين قَتَلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط ، فقد ارتدُّوا عن دينهم فاستحقّوا العذاب الأليم ، ولذلك ابتُدىء به بقوله : { فبشرهم بعذاب أليم } . فلا جرم تَحْبَطُ أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة ، ولا بآثارها الطيّبة في الدنيا ، ومعنى { وما لهم من ناصرين } ما لهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به .
وجيء بمن الدالة على تنصيص العموم لئلاّ يترك لهم مدخل إلى التأويل .