قوله تعالى : { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما أغرق الله فرعون قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، فقال جبريل عليه السلام : يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة " . فلما أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل ما مات فرعون فأمر الله البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور فرآه بنو إسرائيل فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتا ، أبدا .
{ 91 } قال الله تعالى - مبينا أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له- : { آلْآنَ } تؤمن ، وتقر برسول الله { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } أي : بارزت بالمعاصي ، والكفر والتكذيب { وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله ، أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم ، لأن إيمانهم ، صار إيمانًا مشاهدًا كإيمان من ورد القيامة ، والذي ينفع ، إنما هو الإيمان بالغيب .
ولما كان هذا القول قد جاء في غير أوانه ، وأن هذا الإِيمان لا ينفع لأنه جاء عند معاينة الموت ، فقد رد الله - تعالى - على فرعون بقوله - سبحانه - { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين } .
أى : آلآن تدعى الإِيمان حين يئست من الحياة ، وأيقنت بالموت ، والحال أنك كنت قبل ذلك من العصاة المفسدين في الأرض ، المصرين على تكذيب الحق الذي جاءكم به رسولنا موسى - عليه السلام - والظرف " آلآن " متعلق بمحذوف متأخر ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ والإِنكار .
وقوله : { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } جملة حالية من فاعل الفعل المقدر ، أى : آلآن تدعى الإِيمان والحال أنك عصيت قبل وكنت من المفسدين .
قال الإِمام ابن كثير : " وهذا الذي حكاه الله - تعالى - عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك . من أسرار الغيب التي أعلم الله - تعالى - بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ،
ولهذا قال الإِمام أحمد بن حنبل - رحمه الله .
حدثنا سليما بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن على بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لما قال فرعون : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، قال جبريل لى يا محمد لو رأيتنى وقد أخذت حالا من حال البحر - أي طينا أسود من طين البحر - فدسسته في فمه مخافة أن تناله الرحمة " .
ورواه الترمذى ، وابن جرير ، وابن أبى حاتم في تفاسيرهم ، من حديث ، حماد بن سلمة وقال الترمذي : حديث حسن .
مقول لقول حذف لدلالة المقام عليه ، تقديره : قال الله . وهو جواب لقوله : { آمنت } [ يونس : 90 ] لأنه قصد بقوله ذلك طلبَ الإنجاء من الغرق اعترافاً لله بالربوبية ، فكأنه وجه إليه كلاماً . فأجابه الله بكلام .
وقال الله هذا الكلام له على لسان الملَك الموكل بتعذيبه تأييساً له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة ، تلك النجاة التي هي مأمولة حين قال : { آمنت } [ يونس : 90 ] إلى آخره ، فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى ، وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله ، ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق . ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه { فاليوم ننجيك ببدنك } كما سيأتي .
والاستفهام في { ألآن } إنكاري . والآن : ظرف لفعل محذوف دل عليه قوله : { آمنتُ } [ يونس : 90 ] تقديره : الآن تؤمن ، أي هذا الوقت . ويقدر الفعل مؤخراً ، لأن الظرف دل عليه ، ولأن محط الإنكار هو الظرف .
والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي عُلق به الإنكار ليس وقتاً ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي ، فيكون المعنى : لا إيمان الآن .
والمنفي هو إيمانٌ ينجي مَن حصل منه في الدنيا والآخرة . وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت . وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي ، كما تقدم عند قوله تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبتُ الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار } [ النساء : 18 ] .
و ( الآن ) اسم ظرف للزمان الحاضر . . . وقد تقدم عند قوله تعالى : { الآن خفَّف الله عنكم } في سورة [ الأنفال : 66 ] .
وجملة : وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين } في موضع الحال من معمول ( تؤمن ) المحذوف ، وهي موكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار ، فإن إيمانه في ذلك الحين منكر ، ويزيده إنكاراً أن صاحبه كان عاصياً لله ومفسداً للدين الذي أرسله الله إليه ، ومفسداً في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر .
وصيغة : { كنتَ من المفسدين } أبلغ في الوصف بالإفساد من : وكنتَ مُفسداً ، كما تقدم آنفاً ، وبمقدار ما قدّمه من الآثام والفساد يشدّد عليه العذاب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.