السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ عَصَيۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (91)

ودس جبريل في فيه من حما البحر مخافة أن تناله الرحمة وقال له { آلآن } تؤمن { وقد عصيت قبل } وضيعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية { وكنت من المفسدين } بضلالك وإضلالك عن الإيمان والتوبة حتى أغلق بابها بحضور الموت ومعاينة الملائكة ، وإنما قال له : { وكنت من المفسدين } في مقابلة قوله : { وأنا من المسلمين } ومنها أنّ فرعون إنما قال هذه الكلمة ليتوصل بها إلى دفع ما نزل به من البلية الحاضرة ، ولم يكن قصده الإقرار بوحدانية الله تعالى والاعتراف له بالربوبية ، فلم ينفعه ما قال في ذلك الوقت ، ومنها : أنّ فرعون كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع الخالق سبحانه وتعالى ولذلك قال : { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } فلم ينفعه ذلك لحصول الشك في إيمانه ، ومثل هذا الاعتقاد الفاسد لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية والدلائل اليقينية .

ومنها : ما روي في بعض الكتب أنّ بعض أقوام بني إسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلما قال فرعون : { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر ، ومنها : أنّ الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبالإقرار بنبوّة موسى عليه السلام ، وفرعون لم يقرّ بالنبوّة فلم يصح إيمانه ، ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرّة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمانه إلا إذا قال معه : وأشهد أنّ محمداً رسول الله فكذا هنا . ومنها : أنّ جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتوى ، ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه ؟ فكتب فرعون فيه يقول : أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج عن سيده الكافر بنعمته أن يغرّق في البحر ، ثم أنّ فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام إليه خطه . فإن قيل : فما فائدة دس جبريل في فم فرعون ذلك ؛ لأنه في تلك الحالة إمّا أن يكون التكليف ثابتاً أم لا ؟ فإنّ كان فكيف يمنعه من التوبة ، وإن كان غير مكلف فلا فائدة في ذلك ؟ أجيب : بأنَّ التكليف كان ثابتاً وجبريل عليه السلام لم يفعل ذلك من قبل نفسه فإنه عبد مأمور ، والله تعالى يفعل ما يشاء كما قال تعالى : { فإنّ الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } [ فاطر ، 8 ] . وقال تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة } [ الأنعام ، 110 ] وهكذا فعل بفرعون ، منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أوّلاً ، فدس الحما في فم فرعون من جنس الختم والطبع على القلب ، ومن الناس من قال : قائل هذا القول هو الله تعالى ؛ لأنه ذكر بعده .