اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ عَصَيۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (91)

قوله : " الآن " منصوبٌ بمحذوفٍ أي : آمَنْتَ الآن ، أو اتُؤمن الآن .

وقوله : " وقَدْ عَصَيْتَ " جملةٌ حالية ، تقدَّم نظيرها .

واختلفوا في قائل هذا الكلام ، فقيل : هو جبريلُ ، وإنَّما قال : { وَكُنتَ مِنَ المفسدين } في مقابلة قوله { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } . وقيل : القائلُ هو الله تعالى ؛ لأنَّه قال بعدهُ : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } إلى أن قال : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } ، وهذا ليس إلاَّ كلام الله تعالى .

فإن قيل : ظاهرُ اللفظ يدلُّ على أنَّه إنَّما لم تقبل التوبة للمعصية المتقدمة ، والفساد السَّابق ، وهذا التعليلُ لا يمنعُ من قبول التوبةِ .

فالجوابُ من وجهين :

الأول : أنَّ قبول التَّوبةِ غير واجب عقلاً ، ويدُلُّ عليه هذه الآيةُ .

الثاني : أنَّ التعليل ما وقع لمجرَّد المعصية السَّابقة ، بل بتلك مع كونه من المفسدين .

فصل

روي أن جبريل - عليه السلام - أخذ يملأ فمه بالطِّين لئلاَّ يتوب غضباً عليه والأقربُ أنَّ هذا لا يصحُّ ؛ لأنَّه في تلك الحالِ إمَّا أن يقال التكليف كان ثابتاً ، أو ما كان ثابتاً ، فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة ، بل يجبُ عليه أن يعينه على التوبةِ ، وعلى كُلِّ الطَّاعات ، لقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } [ المائدة : 2 ] وأيضاً ، فلو منعه بما ذكر لكانت التَّوبة ممكنةً ؛ لأنَّ الأخرس قد يتوبُ بأن يندمَ بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح ، فلا يبقى لما فعله جبريل فائدة ، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر ، والرِّضا بالكفر كفر وأيضاً كيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] ثُمَّ يأمُرُ جبريل أن يمنعهُ من الإيمان .

فإن قيل : إنَّ جبريل إنَّما فعل ذلك من قبل نفسه لا بأمر الله ، فهذا يبطله قول جبريل : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] وقوله تعالى في صفة الملائكة : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] .

وإن قيل إنَّ التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت ، فلا يبقى للفعل المنسوب لجبريل فائدة أصلاً .