قوله تعالى : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق } ، فيؤمن به ويعمل بما فيه ، { كمن هو أعمى } ، عنه لا يعلمه ولا يعمل به . قيل : نزلت في حمزة وأبي جهل . وقيل : في عمار وأبي جهل . فالأول حمزة أو عمار والثاني أبو جهل ، وهو الأعمى . أي : لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصره ولا يتبعه { إنما يتذكر } يتعظ ، { أولو الألباب } ، ذوو العقول .
{ 19 - 24 } { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }
يقول تعالى : مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ } ففهم ذلك وعمل به . { كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } لا يعلم الحق ولا يعمل به فبينهما من الفرق كما بين السماء والأرض ، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر أي الفريقين أحسن حالا وخير مآلا فيؤثر طريقها ويسلك خلف فريقها ، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره .
{ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي : أولو العقول الرزينة ، والآراء الكاملة ، الذين هم لُبّ العالم ، وصفوة بني آدم ، فإن سألت عن وصفهم ، فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ }
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أنه لا يستوى الأعمى والبصير ، ومدح أولى الألباب بما هم أهله من مدح ، وذم أضدادهم بما يستحقون من ذم ، فقال - تعالى - :
{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ . . . } .
قال الإمام الرازى : " قوله - تعالى - { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى . . . } إشارة إلى المثل المتقدم ذكره - في قوله - تعالى - { أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً } وهو أن العالم بالشئ كالبصير ، والجاهل به كالأعمى ، وليس أحدهما كالآخر ، لأن الأعمى إذا أخذ يمشى من غير قائد ، فربما يقع في المهالك . . أما البصير فإنه يكون آمنا من الهلاك والإِهلاك .
والمراد بالأعمى هنا : الكافر الذي انطمست بصيرته ، فأصبح لا يفرق بين الحق والباطل .
والاستفهام للانكار والاستبعاد .
المعنى : أفمن يعلم أن ما أنزل إليك - أيها الرسول الكريم - من وحى هو الحق الذي يهدى للتى هي أقوم ، كمن هو أعمى القلب : مطموس البصيرة ؟ ؟
فالآية الكريمة تنفى بأبلغ أسلوب ، مساواة الذين علموا الحق فاتبعوه ، بمن جهلوه وأعرضوا عنه ، وصموا آذانهم عن سماعه .
وقوله { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } مدح لأصحاب العقول السليمة ، الذين ذكروا بالحق فتذكروه ، وآمنوا به ، وتعليل لإِعراض الكافرين عنه ، ببيان أن سبب إعراضهم ، أنهم ليسوا أهلا للتذكر ، لأن التذكر إنما هو من شأن أولى الألباب .
والألباب : جمع لب وهو الخالص من كل شئ .
أى : إنما يتذكر وينتفع بالتذكير ، أصحاب العقول السليمة وهم المؤمنون الصادقون .
ويتقابل الذين يستجيبون مع الذين لا يستجيبون . وتتقابل الحسنى مع سوء العذاب . .
ومع جهنم وبئس المهاد . . على منهج السورة كلها وطريقتها المطردة في الأداء . .
والقضية الأولى هي قضية الوحي . وقد أثيرت في صدر السورة . وهي تثار هنا مرة أخرى على نسق جديد
( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ? إنما يتذكر أولو الألباب ) . .
إن المقابل لمن يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا ، إنما المقابل هو الأعمى ! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق . وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف . فالعمى وحده هو الذي ينشى ء الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى . والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان : مبصرون فهم يعلمون ، وعمي فهم لا يعلمون ! والعمى عمى البصيرة ، وانطماس المدارك ، واستغلال القلوب ، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح ، وانفصالها عن مصدر الإشعاع . .
الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر ، وتنبه إلى دلائله فتتفكر .
وقوله : { أفمن يعلم } استفهام بمعنى التقرير ، والمعنى : أسواء من هداه الله فعلم صدق نبوتك وآمن بك ، ومن لم يهتد ولا رزق بصيرة فبقي على كفره ، فمثل عز وجل ذلك بالعمى .
وروي أن هذه الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام ، وقيل : في عمار بن ياسر وأبي جهل بن هشام ، وهي بعد هذا مثال في جميع العالم .
و { إنما } في هذه الآية حاصرة ، أي { إنما يتذكر } فيؤمن ويراقب الله من له لب وتحصيل .
تفريع على جملة { للذين استجابوا لربهم الحسنى } الآية [ سورة الرعد : 13 ] . فالكلام لنفي استواء المؤمن والكافر في صورة الاستفهام تنبيهاً على غفلة الضالّين عن عدم الاستواء ، كقوله : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } [ سورة السجدة : 18 ] .
واستعير لمن لا يعلم أنّ القرآن حق اسمُ الأعمى لأنه انتفى علمه بشيء ظاهر بيّن فأشبه الأعمى ، فالكاف للتشابه مستعمل في التماثل . والاستواء المراد به التماثل في الفضل بقرينة ذكر العَمَى . ولهذه الجملة في المعنى اتصال بقوله في أول السورة { والذي أنزل إليك من ربك الحق إلى يؤمنون } [ سورة الرعد : 1 ] .
وجملة { إنما يتذكر أولوا الألباب } تعليل للإنكار الذي هو بمعنى الانتفاء بأن سبب عدم علمهم بالحق أنهم ليسوا أهلاً للتذكر لأن التذكر من شعار أولي الألباب ، أي العقول .
والقصر ب { إنما } إضافي ، أي لا غيرُ أولي الألباب ، فهو تعريض بالمشركين بأنهم لا عقول لهم إذ انتفت عنهم فائدة عقولهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
"أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق"، يعني القرآن... كمن هو أعمى عن القرآن لا يؤمن بما أنزل من القرآن... لا يستويان... ثم قال: {إنما يتذكر} في هذا الأمر {أولوا الألباب}... يعني أهل اللب والعقل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أهذا الذي يعلم أن الذي أنزله الله عليك يا محمد حقّ، ويصدّق ويعمل بما فيه، كالذي هو أعمى فلا يعرف مَوْقع حجة الله عليه به ولا يعلم ما ألزمه الله من فرائضه...
وقوله:"إنّمَا يَتَذَكّرُ أُولُوا الألْبابِ" يقول: إنما يتعظ بآيات الله ويعتبر بها ذوو العقول، وهي الألباب، واحدها: لُبّ.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى أن من يؤمن بالله ويعلم أن ما أنزل إليك يا محمد من ربك الحق، لا يكون مثل من يشهد ذلك ويعمى عنه، فأخرج الكلام مخرج الاستفهام والمراد به الإنكار، أي لا يكون هذان مستويين، وبين أن الفرق بينهما بمنزلة الفرق بين الأعمى والبصير. وقوله:"إنما يتذكر أولوا الألباب" معناه إنما يتذكر في ذلك ويفكر فيه ويستدل به ذوو العقول والمعرفة...
وإنما شبه العلم بالبصر، والجهل بالعمى، لأن العلم يهتدى به إلى طريق الرشد من الغي كما يهتدى بالبصر إلى طريق النجاة من طريق الهلاك، وعكس ذلك حال الجهل والغي... وهذا إلزام طلب العلم، لأنه خروج عن حال الأعمى بالجهل إلى البصير بالعلم... وقوله: "إنما يتذكر أولوا الألباب "معناه: إنما ينتفع بالذكر من كان له لب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنما يتَّعِظُ مَنْ عقله له تشريف، دونَ مَنْ عقله له سببُ إقصاءً وتعنيف...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَفَمَن يَعْلَمُ} لإنكار أن تقع شبهة بعدما ضرب من المثل في أنّ حال من علم {أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق} فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب: كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز.
العالم بالشيء كالبصير، والجاهل به كالأعمى، وليس أحدهما كالآخر، لأن الأعمى إذا أخذ يمشي من غير قائد، فالظاهر أنه يقع في البئر وفي المهالك، وربما أفسد ما كان على طريقه من الأمتعة النافعة، أما البصير فإنه يكون آمنا من الهلاك والإهلاك. ثم قال: {إنما يتذكر أولوا الألباب} والمراد أنه لا ينتفع بهذه الأمثلة إلا أرباب الألباب الذين يطلبون من كل صورة معناها، ويأخذون من كل قشرة لبابها ويعبرون بظاهر كل حديث إلى سره ولبابه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى: لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي {أُنزلَ إِلَيْكَ} يا محمد {مِنْ رَبِّكَ} هوَ {الحق} أي: الذي لا شك فيه ولا مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا، لا يضاد شيء منه شيئا آخر، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل... فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه، ولو فهمه ما انقاد له، ولا صدقه ولا اتبعه،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما افترق حال من أجاب ومن أعرض في الجزاء، وكان ما مضى مستوفياً طرق البيان بإيضاح الأمر بالجزيئات والأمثلة مع الترغيب والترهيب. فكان جديراً بترتيب الأثر عليه، تسبب عنه الإنكار على من سوى بين العالم العامل وغيره التفاتاً إلى قوله {هل يستوي الأعمى والبصير} وسوى بين الحق والباطل التفاتاً إلى قوله {كذلك يضرب الله الحق والباطل} فحسن قوله: {أفمن} بفاء السبب {يعلم} علماً نافعاً هو عامل به {إنما} أي الذي {أنزل} أي وجد إنزاله وفرغ منه {إليك من ربك} أي المحسن إليك بأحسن التدبير {الحق} أي الكامل في الحقية، فهو نير العين للبصر والقلب للاستبصار والاعتبار، يهتدي بما يعلم إلى طريق الرشد فيسلكها، وإلى طريق الغي فيتركها، ويفهم الإشارات، وينتفع بالأمثال السائرات، كما يبصر بالبصر طريق النجاة من طريق الهلاك {كمن هو أعمى} لا بصر له ولا بصيرة، لأنه لا يعمل وإن كان عالماً، فهو لا ينتفع بالأمثال، فكأنه قيل: لا يستويان مثلاً أصلاً، ثم علل هذا الإنكار بقوله: {إنما} أي لأنه إنما يعلم ذلك بالتذكر، وإنما {يتذكر} أي يطلب الذكر طلباً عظيماً فيعمل {أولوا} أي أصحاب {الألباب} أي العقول الصافية الخالصة القابلة للتذكر بالتفكر في أن ما أنزل من عند الله ثابت الأركان راسي القواعد، لا قدرة لأحد على إزالة معنى من معانيه ولا هدم شيء من مبانيه وأن ما عداه هلهل النسج رث القوى، مخلخل الأركان، دارس الرسم، منطمس الأعلام، مجهول المسالك، مظلم الأرجاء، جم المهالك، وأما القلب الذي لا يرجع عن غيه لمثل هذا البيان فكأنه غير قابل للذكرى، فاستحق أن يعد عدماً، وأن يخص التذكر بالقلب، ومن المعلوم أنه لا يستوي من له لب ومن لا لب له؛ واللب والقلب: أجل ما في الشيء وأخلصه وأجوده...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويتقابل الذين يستجيبون مع الذين لا يستجيبون. وتتقابل الحسنى مع سوء العذاب.
ومع جهنم وبئس المهاد.. على منهج السورة كلها وطريقتها المطردة في الأداء..
بعد المشاهد الهائلة في آفاق الكون وفي أعماق الغيب، وفي أغوار النفس التي استعرضها شطر السورة الأول، يأخذ الشطر الثاني في لمسات وجدانية وعقلية، وتصويرية دقيقة رفيقة، حول قضية الوحي والرسالة، وقضية التوحيد والشركاء، ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد.. وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة.
وتبدأ هذه الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر، فالأول علم والثاني عمى. وفي طبيعة المؤمنين وطبيعة الكافرين والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء. يتلوها مشهد من مشاهد القيامة، وما فيها من نعيم للأولين ومن عذاب للآخرين. فلمسة في بسط الرزق وتقديره وردهما إلى الله. فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله. فوصف لهذا القرآن الذي يكاد يسير الجبال وتقطع به الأرض ويكلم به الموتى. فلمسة بما يصيب الكفار من قوارع تنزل بهم أو تحل قريبا من دارهم. فجدل تهكمي حول الآلهة المدعاة. فلمسة من مصارع الغابرين ونقص أطراف الأرض منهم حينا بعد حين. يختم هذا كله بتهديد الذين يكذبون برسالة الرسول [ص] بتركهم للمصير المعلوم!
من ذلك نرى أن الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول، تحضر المشاعر وتهيئها لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني، وهي على استعداد وتفتح لتلقيها؛ وأن شطري السورة متكاملان؛ وكل منهما يوقع على الحس طرقاته وإيحاءاته لهدف واحد وقضية واحدة.
والقضية الأولى هي قضية الوحي. وقد أثيرت في صدر السورة. وهي تثار هنا مرة أخرى على نسق جديد
(أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى؟ إنما يتذكر أولو الألباب)..
إن المقابل لمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا، إنما المقابل هو الأعمى! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق. وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف. فالعمى وحده هو الذي ينشى ء الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى. والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان: مبصرون فهم يعلمون، وعمي فهم لا يعلمون! والعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلال القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح، وانفصالها عن مصدر الإشعاع..
الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر، وتنبه إلى دلائله فتتفكر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفريع على جملة {للذين استجابوا لربهم الحسنى}... فالكلام لنفي استواء المؤمن والكافر في صورة الاستفهام تنبيهاً على غفلة الضالّين عن عدم الاستواء، كقوله: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} [سورة السجدة: 18].
واستعير لمن لا يعلم أنّ القرآن حق اسمُ الأعمى لأنه انتفى علمه بشيء ظاهر بيّن فأشبه الأعمى، فالكاف للتشابه مستعمل في التماثل. والاستواء المراد به التماثل في الفضل بقرينة ذكر العَمَى. ولهذه الجملة في المعنى اتصال بقوله في أول السورة {والذي أنزل إليك من ربك الحق إلى يؤمنون}.
وجملة {إنما يتذكر أولوا الألباب} تعليل للإنكار الذي هو بمعنى الانتفاء بأن سبب عدم علمهم بالحق أنهم ليسوا أهلاً للتذكر لأن التذكر من شعار أولي الألباب، أي العقول.
والقصر ب {إنما} إضافي، أي لا غيرُ أولي الألباب، فهو تعريض بالمشركين بأنهم لا عقول لهم إذ انتفت عنهم فائدة عقولهم.
والألباب: العقول. وتقدم في آخر سورة آل عمران.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا النص الكريم لتأكيد الفارق بين جزاء المتقين وجزاء الذين لا يستجيبون للحق ولا يذعنون... لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، أفيستوي الذين يعلمون {إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى}. والمراد بالذي {أنزل إليك من ربك} القرآن، وكر بهذا الموصول ليكون متضمنا الحكم، وهو أنه الحق لأنه أنزل إليك من الله الذي خلقك ورباك وأيدك، فلا بد أن يكون الحق، وتعريف الطرفين يدل على القصر، أي أنه لا يمكن أن يكون إلا حقا، ولا يمكن أن يكون فيه باطل قط {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت 42].. ثم قال تعالى: {إنما يتذكر أولوا الألباب}... معنى التذكر إدراك الآيات، وكأنها لا تحتاج إلى تعرف جديد؛ لأن أصلها في الفطرة...