قوله عز وجل :{ ويوم نحشرهم } قرأ يعقوب وحفص : يحشرهم ، ويقول بالياء فيهما ، وقرأ الآخرون بالنون ، { جميعا } يعني : هؤلاء الكفار ، { ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } في الدنيا ، قال قتادة : هذا استفهام تقرير ، كقوله تعالى لعيسى : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } فتتبرأ منهم الملائكة .
{ 40 - 42 } { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ }
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } أي : العابدين لغير اللّه والمعبودين من دونه ، من الملائكة . { ثُمَّ يَقُولُ } الله { لِلْمَلَائِكَةِ } على وجه التوبيخ لمن عبدهم { أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } فتبرأوا من عبادتهم .
ثم بين - سبحانه - حال أولئك المشركين يوم القيامة ، وكيف أن الملائكة يكذبونهم فى مزاعمهم ، فقال - تعالى - : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً . . . . كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } .
أى : واذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ { يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } أى : يجمع الله - سبحانه - الكافرين جميعا . الذين استضعفوا فى الدنيا والذين استكبروا .
{ ثُمَّ يَقُولُ } - عز وجل - { لِلْمَلاَئِكَةِ } على سبيل التبكيت والتقريع للمشركين { أهؤلاء } الكافرون { إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } أى : أهؤلاء كانوا يبعدونكم فى الدنيا . وأنتم رضيتم بذلك .
و { هؤلاء } مبتدأ ، وخبره { كَانُواْ يَعْبُدُونَ } و { إِيَّاكُمْ } مفعول يعبدون .
وتخصيص الملائكة بالخطاب مع أن من الكفار من كان يعبد الأصنام ، ومن كان يعبد غيرها ، لأن المقصود من الخطاب حكاية ما يقوله الملائكة فى الرد عليهم .
قال صاحب الكشاف : هذا الكلام خطاب للملائكة . وتقريع للكفار وارد على المثل السائر : إياك أعنى واسمعى يا جارة ، ونحوه قوله - تعالى - لعيسى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } وقد علم - سبحانه - كون الملائكة وعيسى ، منزهين برآه مما وجه عليهم من السؤال ، والغرض أن يقول ويوقلوا ، ويسأل وجيبوا ، فيكون التقريع للمشركين أشد ، والتعبير أبلغ ، وهوانهم ألزم .
ويختم هذه الجولة بمشهدهم محشورين يوم القيامة ، حيث يواجههم الله سبحانه بالملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ؛ ثم يذوقون عذاب النار الذي كانوا يستعجلون به ، ويقولون متى هذا الوعد ? كما جاء في أول هذا الشوط :
( ويوم يحشرهم جميعاً ، ثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ? قالوا : سبحانك أنت ولينا من دونهم . بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون . فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً ، ونقول للذين ظلموا : ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ) . .
فهؤلاء هم الملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ، أو يتخذونهم عنده شفعاء . هؤلاء هم يواجهون بهم ، فيسبحون الله تنزيهاً له من هذا الادعاء ، ويتبرأون من عبادة القوم لهم . فكأنما هذه العبادة كانت باطلاً أصلاً ، وكأنما لم تقع ولم تكن لها حقيقة . إنما هم يتولون الشيطان . إما بعبادته والتوجه إليه ، وإما بطاعته في اتخاذ شركاء من دون الله . وهم حين عبدوا الملائكة إنما كانوا يعبدون الشيطان ! ذلك إلى أن عبادة الجن عرفت بين العرب ؛ وكان منهم فريق يتوجه إلى الجن بالعبادة أو الاستعانة : ( بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) . . ومن هنا تجيء علاقة قصة سليمان والجن بالقضايا والموضوعات التي تعالجها السورة ، على طريقة سياقة القصص في القرآن الكريم .
هذه آية وعيد للكفار ، والمعنى واذكر يوم نحشرهم ، وقرأ جمهور القراء «نحشرهم جميعاً ثم نقول » بالنون فيهما ، ورواها أبو بكر عن عاصم ، وقرأ حفص عن عاصم «ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول » بالياء فيهما ، وذكرها أبو حاتم عن أبي عمرو ، والقول للملائكة هو توقيف تقوم منه الحجة على الكفار عبدتهم وهذا نحو قوله تعالى لعيسى عليه السلام { أأنت قلت للناس }{[9670]} [ المائدة : 116 ] .
عطف على جملة { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم } [ سبأ : 31 ] الآية استكمالاً لتصوير فظاعة حالهم يوم الوعد الذي أنكروه تبعاً لما وصف من حال مراجعة المستكبرين منهم والمستضعفين ؛ فوصف هنا افتضاحهم بتبرؤ الملائكة منهم وشهادتهم عليهم بأنهم يعبدون الجن .
وضمير الغيبة من { نحشرهم } عائد إلى ما عاد عليه ضمير { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً } [ سبأ : 35 ] الذي هو عائد إلى { الذين كفروا } من قوله : { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن } [ سبأ : 31 ] . والكلام كله منتظم في أحوال المشركين ، وجميع : فعيل بمعنى مفعول ، أي مجموع وكثر استعماله وصفاً لإِفادة شمول أفراد ما أجري هو عليه من ذوات وأحوال ، أي يجمعهم المتكلم ، قال لبيد :
عريت وكان بها الجميعُ فأبكروا *** منها وغودر نُؤيها وثُمامها
وتقدم عند قوله تعالى : { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون } في سورة هود ( 55 ) . فلفظ { جميعاً } يعم أصناف المشركين على اختلاف نحلهم واعتقادهم في شركهم فقد كان مشركو العرب نِحَلا شتّى يأخذ بعضهم من بعض وما كانوا يحققون مذهباً منتظم العقائد والأقوال غير مخلوط بما ينافي بعضه بعضاً .
والمقصد من هذه الآية إبطال قولهم في الملائكة إنهم بنات الله ، وقولهم : { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } كما في سورة الزخرف ( 20 ) . وكانوا يخلطون بين الملائكة والجن ويجعلون بينهم نسباً ، فكانوا يقولون : الملائكة بنات الله من سَروات الجن .
وقد كان حَيّ من خزاعة يقال لهم : بنو مُليح ، بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتية ، يعبدون الجن والملائكة ، والاقتصار على تقرير الملائكة واستشهادهم على المشركين لأن إبطال إلهية الملائكة يفيد إبطال إلهية ما هو دونها ممن أُعيد من دون الله بدلالة الفحوى ، أي بطريق الأولى فإن ذلك التقرير من أهم ما جعل الحشر لأجله .
وتوجيه الخطاب إلى الملائكة بهذا الاستفهام مستعمل في التعريض بالمشركين على طريقة المَثل إياك أعنِي واسمَعِي يا جارة .
والإِشارة ب{ هؤلاء } إلى فريق كانوا عبدوا الملائكة والجن ومن شايعهم على أقوالهم من بقية المشركين .
وتقديم المفعول على { يعبدون } للاهتمام والرعاية على الفاصلة .
وحكي قول الملائكة بدون عاطف لوقوعه في المحاورة كما تقدم غير مرة ولذلك جيء فيه بصيغة الماضي لأن ذلك هو الغالب في الحكاية .
وجواب الملائكة يتضمن إقراراً مع التنزه عن لفظ كونهم معبودين كما يتنزه من يَحكي كفر أحد فيقول قال : هُو مشرك بالله ، وإنما القائل قال : أنا مشرك بالله .