{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي : استخف عقولهم بما أبدى لهم من هذه الشبه ، التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا حقيقة تحتها ، وليست دليلا على حق ولا على باطل ، ولا تروج إلا على ضعفاء العقول .
فأي دليل يدل على أن فرعون محق ، لكون ملك مصر له ، وأنهاره تجري من تحته ؟
وأي دليل يدل على بطلان ما جاء به موسى لقلة أتباعه ، وثقل لسانه ، وعدم تحلية الله له ، ولكنه لقي ملأ لا معقول عندهم ، فمهما قال اتبعوه ، من حق وباطل . { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } فبسبب فسقهم ، قيض لهم فرعون ، يزين لهم الشرك والشر .
وقوله - تعالى - : { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } بيان لما كان عليه فرعون من لؤم وخداع ، ولما كان عليه قومه من جبن وخروج على طاعة الله - تعالى - .
أى : وبعد أن قال فرعون لقومه ما قال من تطاول على موسى - عليه السلام - طلب منهم الخفة والسرعة والمبادرة إلى الاستجابة لما قاله لهم ، فأجابوه إلى طلبه منهم ، لأنهم كانوا قوما خارجين على طاعتنا ، مؤثرين الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية . .
( فاستخف قومه فأطاعوه ، إنهم كانوا قوماً فاسقين ) . .
واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه ؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة ، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ، ولا يعودوا يبحثون عنها ؛ ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة . ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك ، ويلين قيادهم ، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين !
ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق ، ولا يمسكون بحبل الله ، ولا يزنون بميزان الإيمان . فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح . ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول :
أي فتفرع عن نداء فرعون قومَه أن أثَّر بتمويهه في نفوس ملئِه فعجَّلوا بطاعته بعد أن كانوا متهيئين لاتباع موسى لما رأوا الآيات . فالخفة مستعارة للانتقال من حالة التأمل في خلع طاعة فرعون والتثاقل في اتباعه إلى التعجيل بالامتثال له كما يخِف الشيء بعد التثاقل .
والمعنى يرجع إلى أنه استخف عقولهم فأسرعوا إلى التصديق بما قاله بعد أن صدّقوا موسى في نفوسهم لمّا رأوا آياته نزولاً ورفعاً . والمراد ب { قومه } هنا بعض القوم ، وهم الذين حضروا مجلس دعوة موسى هؤلاء هم الملأ الذين كانوا في صحبة فرعون .
والسين والتاء في { استخف } للمبالغة في أخَفّ مثل قوله تعالى : { إنّما استْزَلَّهُمْ الشيطان } [ آل عمران : 155 ] وقولهم : هذا فِعلُ يستفزّ غضَب الحليم .
وجملة { إنهم كانوا قوماً فاسقين } في موضع العلة لِجملة { فأطاعوه } كما هو شأن ( إنَّ ) إذا جاءت في غير مقام التأكيد فإن كونهم قد كانوا فاسقين أمر بيِّنٌ ضرورةَ أن موسى جاءهم فدعاهم إلى ترك ما كانوا عليه من عبادة الأصنام فلا يقتضي في المقام تأكيد كونهم فاسقين ، أي كافرين . والمعنى : أنهم إنما خَفُّوا لطاعة رأس الكفر لقرب عهدهم بالكفر لأنهم كانوا يؤلِّهُون فرعون فلما حصل لهم تردّد في شأنه ببعثة موسى عليه السلام لم يلبثوا أن رجعوا إلى طاعة فرعون بأدنى سبب .
والمراد بالفسق هنا : الكُفر ، كما قال في شأنهم في آية الأعراف ( 145 ) { سَأُوْريكم دار الفاسقين }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فاستخف قومه}: استفز قومه القبط، {فأطاعوه} في الذي قال لهم على التكذيب، حين قال لهم {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29] {إنهم كانوا قوما فاسقين} يعني عاصين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فاستخفّ فرعون خلقا من قومه من القبط، بقوله الذي أخبر الله تبارك وتعالى عنه أنه قال لهم، فقبلوا ذلك منه فأطاعوه، وكذّبوا موسى، وقال الله: وإنما أطاعوا فاستجابوا لما دعاهم إليه عدوّ الله من تصديقه، وتكذيب موسى، لأنهم كانوا قوما عن طاعة الله خارجين بخذلانه إياهم، وطبعه على قلوبهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فاستخفّ قومه فأطاعوه}...قال بعضهم: استرذلهم، واستفزّهم بالخروج على أتباع موسى وطلبه، فأطاعوه؛ وذلك أنه أمرهم بالخروج معه في طلب موسى لمّا خرج من عنده نحو البحر، فأطاعوه في ذلك، وخرجوا معه في طلبه حتى أصابهم ما أصابهم. وكان هذا أشبه وأقرب.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} فيه أربعة أوجه:
الثاني: حركهم بالرغبة فخفوا معه في الإجابة، وهو معنى قول الفراء.
الثالث: استجهلهم فأظهروا طاعة جهلهم، وهو معنى قول الكلبي.
الرابع: دعاهم إلى باطله فخفوا في إجابته؛ قاله ابن عيسى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" فاستخف قومه "يعني فرعون استخف عقول قومه، فأطاعوه في ما دعاهم اليه لأنه احتج عليهم بما ليس بدليل، وهو قوله "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي "ولو عقلوا وفكروا لقالوا ليس في ملك الإنسان ما يدل على أنه محق لكون ملوك كثيرة يخالفونك مبطلين عندك، وليس يجب أن يأتي مع الرسل ملائكة لأن الذي يدل على صدق الجميع المعجز دون غيره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أطاعوه طاعةَ الرهبة، وطاعة الرهبةِ لا تكون مخلصةً، وإنما تكون الطاعةُ صادقةً إذا صَدَرت عن الرغبة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فاستخف قَوْمَهُ} فاستفزهم. وحقيقته: حملهم على أن يخفوا له ولما أراد منهم، وكذلك: استفز، من قولهم للخفيف: فز.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان كلامه هذا واضعاً له عند من تأمل لا رافعاً، وكان قد مشى على أتباعه لأنهم مع المظنة دون المنة، فهم أذل شيء لمن ثبتت له رئاسته دنيوية وإن صار تراباً وأعصى شيء على من لم تفقه له الناس وإن فعل الأفاعيل العظام، تشوف السامع إلى ما يتأثر عنه فقال: {فاستخف} أي بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب.
{قومه} الذين لهم قوة عظيمة، فحملهم بغروره على ما كانوا مهيئين له في خفة الحلم.
{فأطاعوه} بأن أقروا بملكه وأذعنوا لضخامته واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان كلامه كما مضى أعظم موهن لأمره، وهو منقوض على تقدير متانته بأن موسى على نبينا وعليه السلام أتى بما يغني عما قاله من الأساورة وظهور الملائكة بأنه مهما هددهم فعله، ومهما طلبوه منه أجابهم إليه، فلم يكن للقبط داع إلى طاعة فرعون بعدما رأوا من الآيات إلا المشاكلة في خباثة الأرواح، علل ذلك سبحانه بقوله مؤكداً لما يناسب أحوالهم فيرتضي أفعالهم وهم الأكثر: {إنهم كانوا} أي بما في جبلاتهم من الشر والنفاق لأنهم كانوا {قوماً} أي عندهم قوة شكائم توجب لهم الشماخة، إلا عند من يقهرهم بما يألفون من أسباب الدنيا.
{فاسقين} أي عريقين في الخروج عن طاعة الله إلى معصية، قد صار لهم ذلك خلقاً ثانياً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
استخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين!
ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح. ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول: (فاستخف قومه فأطاعوه. إنهم كانوا قوماً فاسقين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفرع عن نداء فرعون قومَه أن أثَّر بتمويهه في نفوس ملئِه فعجَّلوا بطاعته بعد أن كانوا متهيئين لاتباع موسى لما رأوا الآيات، فالخفة مستعارة للانتقال من حالة التأمل في خلع طاعة فرعون والتثاقل في اتباعه إلى التعجيل بالامتثال له كما يخِف الشيء بعد التثاقل.
والمعنى يرجع إلى أنه استخف عقولهم فأسرعوا إلى التصديق بما قاله بعد أن صدّقوا موسى في نفوسهم لمّا رأوا آياته نزولاً ورفعاً.
والمراد ب {قومه} هنا بعض القوم، وهم الذين حضروا مجلس دعوة موسى هؤلاء هم الملأ الذين كانوا في صحبة فرعون...
وجملة {إنهم كانوا قوماً فاسقين} في موضع العلة لِجملة {فأطاعوه} كما هو شأن (إنَّ) إذا جاءت في غير مقام التأكيد؛ فإن كونهم قد كانوا فاسقين أمر بيِّنٌ ضرورةَ أن موسى جاءهم فدعاهم إلى ترك ما كانوا عليه من عبادة الأصنام فلا يقتضي في المقام تأكيد كونهم فاسقين أي كافرين، والمعنى: أنهم إنما خَفُّوا لطاعة رأس الكفر لقرب عهدهم بالكفر؛ لأنهم كانوا يؤلِّهُون فرعون فلما حصل لهم تردّد في شأنه ببعثة موسى عليه السلام لم يلبثوا أن رجعوا إلى طاعة فرعون بأدنى سبب...