{ والذين في أموالهم حق معلوم . للسائل والمحروم . والذين يصدقون بيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون } قرأ حفص عن عاصم ، ويعقوب : { بشهاداتهم } على الجمع ، وقرأ الآخرون { بشهادتهم } على التوحيد ، { قائمون } أي يقومون فيها بالحق أو لا يكتمونها ولا يغيرونها .
{ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ } أي : لا يشهدون إلا بما يعلمونه ، من غير زيادة ولا نقص ولا كتمان ، ولا يحابي فيها قريبا ولا صديقا ونحوه ، ويكون القصد بها{[1232]} وجه الله .
قال تعالى : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } .
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } أى : والذين هم من صفاتهم أنهم يؤدون الشهادة على وجهها الحق ، فلا يشهدون بالزور أو الباطل ، ولا يكتمون الشهادة إذا طلب منهم أن يؤدوها ، عملا بقوله - تعالى - { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } فالشهادات : جمع شهادة . والمرادج بالقيام بها : أداؤها على أتم وجه وأكمله وأعدلهه ، إذ القيام بها يشمل الاهتمام بشأنها ، وحفظها إلى أن يؤديها صاحبها على الوجه الذى يحبه - سبحانه - .
( والذين هم بشهاداتهم قائمون ) . .
وقد ناط الله بأداء الشهادة حقوقا كثيرة ، بل ناط بها حدود الله ، التي تقام بقيام الشهادة . فلم يكن بد أن يشدد الله في القيام بالشهادة ، وعدم التخلف عنها ابتداء ، وعدم كتمانها عند التقاضي ، ومن القيام بها أداؤها بالحق دون ميل ولا تحريف . وقد جعلها الله شهادة له هو ليربطها بطاعته ، فقال : ( وأقيموا الشهادة لله ) . . وجعلها هنا سمة من سمات المؤمنين وهي أمانة من الأمانات ، أفردها بالذكر للتعظيم من شأنها وإبراز أهميتها . .
وقوله تعالى : { والذين هم بشهاداتهم قائمون } معناه في قول جماعة من المفسرين : أنهم يحفظون ما يشهدون فيه ، ويتيقنونه ويقومون بمعانيه حتى لا يكون لهم فيه تقصير ، وهذا هو وصف من تمثيل قول النبي صلى الله عليه وسلم : «على مثل الشمس فاشهد »{[11332]} . وقال آخرون معناه الذين إذا كانت عندهم شهادة ورأوا حقاً يدرس أو حرمة لله تنتهك قاموا بشهادتهم ، وقال ابن عباس : شهادتهم في هذه الآية : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له » . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها »{[11333]} ، واختلف الناس في معنى هذا الحديث بحسب المعنيين اللذين ذكرت في الآية ، إحداهما : أن يكون يحفظهما متقنة فيأتي بها ولا يحتاج أن يستفهم عن شيء منها ولا أن يعارض . والثاني : إذا رأى حقاً يعمل بخلافه وعنده في إحياء الحق شهادة . وروي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «سيأتي قوم يخونون ولا يؤتمنون ، ويشهدون ولا يستشهدون ، ويظهر فيهم السمن »{[11334]} . واختلف الناس في معنى هذا الحديث ، فقال بعض العلماء : هم قوم مؤمنون يتعرضون ويحرصون على وضع أسمائهم في وثائق الناس ، وينصبون لذلك الحبائل من زي وهيئة وهم غير عدول في أنفسهم فيغرون بذلك ويضرون .
قال القاضي أبو محمد : فهذا في ابتداء الشهادة لا في أدائها ، ويجيء قوله عليه السلام : «ولا يستشهدون » ، أي وهم غير أهل لذلك ، وقال آخرون من العلماء : هم شهود الزور ، لأنهم يؤدونها والحال لم تشهدهم ولا المشهود عليه ، وقرأ حفص عن عاصم : «بشهاداتهم » على الجمع وهي قراءة عبد الرحمن ، والباقون «بشهادتهم » على الإفراد الذي هو اسم الجنس .
وقوله : { والذين هم بشهادتهم قائمون } ذكر لمناسبة ذكر رعي الأمانات إذ الشهادة من جملة الأمانات لأن حق المشهود له وديعة في حفظ الشاهد فإذا أدى شهادته فكأنه أدى أمانة لصاحب الحق المشهود له كانت في حفظ الشاهد .
ولذلك كان أداء الشهادة إذا طولب به الشاهد واجباً عليه ، قال تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا } [ البقرة : 282 ] .
والقيام بالشهادة : الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى ، وهذا قيام مجازي كما تقدم عند قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } في سورة البقرة ( 3 ) .
وباء { بشهادتهم } للمصاحبة ، أي يقومون مصاحبين للشهادة ويصير معنى الباء في الاستعارة معنى التعدية .
فذكر القيام بالشهادة إتمام لخصال أهل الإِسلام فلا يتطلب له مقابل من خصال أهل الشرك المذكورة فيما تقدم .
والقول في اسمية جملة الصلة للغرض الذي تقدم لأن أداء الشهادة يشق على الناس إذ قد يكون المشهود عليه قريباً أو صديقاً ، وقد تثير الشهادة على المرء إِحْنَة منه وعداوة .
وقرأ الجمهور { بشهادتهم } بصيغة الإِفراد ، وهو اسم جنس يعم جميع الشهادات التي تحملوها . وقرأ حفص ويعقوب { بشهاداتهم } بصيغة الجمع . وذلك على اعتبار جمع المضاف إليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني يقومون بها بالحق، لا يمنعونها ولا يكتمونها إذا دعوا إليها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
والذين لا يكتمون ما استشهدوا عليه، ولكنهم يقومون بأدائها، حيث يلزمهم أداؤها غير مغيرة ولا مبدّلة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يقيمونها لله تعالى كقوله: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} [النساء: 135] أي قائمين بالوفاء بما عليهم من الشهادة، فيقومون لها، أحبوا أم كرهوا، ضرهم ذلك أم نفعهم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
يعني يقيمونها ولا يكتمونها ولا يغيرونها.
وقال سهل: قائمون بحفظ ما شهدوا به من شهادة لا إله إلاّ الله، فلا يشركون به في شيء من الأفعال والأقوال والأحوال.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: أنها شهادتهم على أنبيائهم بالبلاغ، وعلى أممهم بالقبول أو الامتناع. الثاني: أنها الشهادات في حفظ الحقوق بالدخول فيها عند التحمل، والقيام بها عند الأداء.
ويحتمل ثالثاً: أنهم إذا شاهدوا أمراً أقاموا الحق للَّه تعالى فيه، من معروف يفعلونه ويأمرون به، ومنكر يجتنبونه وينهون عنه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قرئ: «بشهادتهم» «وبشهاداتهم». والشهادة من جملة الأمانات. وخصها من بينها إبانة لفضلها، لأنّ في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها. وفي زيها: تضييعها وإبطالها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
معناه في قول جماعة من المفسرين: أنهم يحفظون ما يشهدون فيه، ويتيقنونه ويقومون بمعانيه حتى لا يكون لهم فيه تقصير، وهذا هو وصف من تمثيل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «على مثل الشمس فاشهد».
وقال آخرون: معناه الذين إذا كانت عندهم شهادة ورأوا حقاً يدرس أو حرمة لله تنتهك قاموا بشهادتهم،
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
وقيل: هو المبادرة إلى أدائها من غير امتناع فأما إن دعي الشاهد إلى الأداء فهو واجب عليه وأما إذا لم يدع إلى الأداء فالشهادة على ثلاثة أقسام:
أحدها: حقوق الناس، فلا يجوز أداؤها حتى يدعوه صاحب الحق إلى ذلك. والثاني: حقوق الله التي يستدام فيها التحريم كالطلاق والعتق والأحباس، فيجب أداء الشهادة بذلك دعي أو لم يدع.
الثالث: حقوق الله التي لا يستدام فيها التحريم كالحدود فهذا ينبغي ستره، حتى يدعى إليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان أجل العهود والأمانات ما كان بإشهاد، قال مبيناً لفضل الشهادة: {والذين هم} أي بغاية ما يكون من توجيه القلوب {بشهاداتهم} التي شهدوا بها أو يستشهدون بها لطلب أو غيره، وتقديم المعمول إشارة إلى أنهم في فرط قيامهم بها ومراعاتهم لها كأنهم لا شاغل لهم سواها {قائمون} أي يتحملونها ويؤدونها على غاية التمام والحسن أداء من هو متهيئ لها واقف في انتظارها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد ناط الله بأداء الشهادة حقوقا كثيرة، بل ناط بها حدود الله، التي تقام بقيام الشهادة. فلم يكن بد أن يشدد الله في القيام بالشهادة، وعدم التخلف عنها ابتداء، وعدم كتمانها عند التقاضي، ومن القيام بها أداؤها بالحق دون ميل ولا تحريف. وقد جعلها الله شهادة له هو ليربطها بطاعته، فقال: (وأقيموا الشهادة لله).. وجعلها هنا سمة من سمات المؤمنين وهي أمانة من الأمانات، أفردها بالذكر للتعظيم من شأنها وإبراز أهميتها..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ذكر لمناسبة ذكر رعي الأمانات إذ الشهادة من جملة الأمانات لأن حق المشهود له وديعة في حفظ الشاهد فإذا أدى شهادته فكأنه أدى أمانة لصاحب الحق المشهود له كانت في حفظ الشاهد.
ولذلك كان أداء الشهادة إذا طولب به الشاهد واجباً عليه، قال تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا} [البقرة: 282].
والقيام بالشهادة: الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى، وهذا قيام مجازي كما تقدم عند قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} في سورة البقرة (3).
فذكر القيام بالشهادة إتمام لخصال أهل الإِسلام فلا يتطلب له مقابل من خصال أهل الشرك المذكورة فيما تقدم.
والقول في اسمية جملة الصلة للغرض الذي تقدم لأن أداء الشهادة يشق على الناس إذ قد يكون المشهود عليه قريباً أو صديقاً، وقد تثير الشهادة على المرء إِحْنَة منه وعداوة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويضيف في الوصف الثامن: (والذين هم بشهاداتهم قائمون) لأنّ القيام بالشهادة العادلة وترك كتمانها من أهم بنود إقامة العدل في المجتمع البشري. وقد يرفض بعض الناس أداء الشهادة بحجّة أننا لماذا نشتري عداوة هذا وذاك، ونسبب المتاعب لأنفسنا بإدلاء الشهادة، هؤلاء أشخاص لا يبالون بالحقوق الإنسانية ويفقدون الروح الاجتماعية، ولا يؤمنون بتطبيق العدالة، ولهذا نرى القرآن الكريم في كثير من آياته يدعو المسلمين إلى أداء الشهادة ويعدّ كتمانها ذنباً.